في برلين... هذه المدينة العظيمة في تكوينها الاقتصادي والثقافي والحضاري، وفي تلاقح هذه الأجناس البشرية المختلفة في أذواقها وحضاراتها وثقافاتها المجتمعة كلها في كيان هذه البلاد المحتضنة كل هذه الاختلافات في بوتقة مجتمعها المدني، وشريان حياتها اليومي.
في برلين... مدينة المتاحف والمسارح، والمعارض الفنية المحتوية كل الاتجاهات ومختلف الأفكار، وأحدث العروض الفنية، فيها واجهتني الأسئلة بالأمسية التي أقيمت لي في النادي الثقافي العربي، أسئلة تدور حول حال الثقافة وهمومها وانقطاع التواصل بين المبدعين في داخل البلاد العربية والمبدعين في الخارج. والسؤال مؤلم لأنه محمّل بهموم الغربة والاغتراب، والبعد عن دفء التواصل العربي المعروف بالحميمية والترابط. ولكن هل فعلا الحميمية والتواصل مازالا قائمين فيما بيننا؟ أقصد نحن الكتّاب العرب المقيمين في بلادنا العربية، هل بيننا علاقات تواصل وترابط خارج الندوات أو المؤتمرات المقامة هنا أو هناك؟ أشك في وجود مثل هذا التواصل، فنحن في انقطاع حقيقي فيما بيننا، خصوصا بعد الدخول إلى عالم الإنترنت، أصبحت حياتنا كلها معلقة بجهاز، نبات ونصحو معه، وكل حياتنا تدور به، لا يفارقنا لا في الإقامة ولا حتى في السفر، علاقاتنا مع الأهل والأصدقاء كلها تمر عبر هذه الأجهزة. يوجد تواصل... لكنه تواصل عبر رسائل عابرة لا تقيم ترابطاً حقيقياً، حتى العلاقات في الأسرة الواحدة باتت عبر المسجات من بيت إلى بيت، أو من غرفة إلى غرفة في منزل واحد، فكيف يكون هناك تواصل حقيقي بين الداخل والخارج إذ لم يوجد هذا فيما بين الداخل ذاته؟ أعتقد أن هناك أزمة حقيقية بين المبدعين العرب لاسيما تلك الأسماء البعيدة عن بريق النجومية، أما كيف يتم هذا التواصل، فهذا ليس لي به علم أو قدرة أو تنجيم. والسؤال الذي أعجبني طرحه عليّ راديو «deutsche welle»، وهو: ما رأيك في جدية الألمان؟ لا شيء يعجبني في الحياة بقدر الجدية والشعور بالمسؤولية، فكيف لا أعجب بجدية الألمان التي هي علامة جودة أصلية، لتفوق الفرد الألماني وانضباطه وعظمة تقدمه وتفوقه. الجدية هذه هي الأساس لبناء كل الاقتصادات العظيمة وكل الثقافات الحضارية، صناعة الثقافة في رأيي في حاجة إلى الجدية أكثر من أي صناعة أخرى، الجدية مطلوبة في رسم سياسة للبناء الثقافي وفي متابعة تحققه ونموه، وإيصاله إلى مساره الصحيح هو هدف لبناء الفرد والحضارة. لذلك حين سألتني إحدى الحاضرات في الأمسية عن الثقافة التي نتكلم عنها، هل هي تخص الكتابة والفن والشعر، وهل هي نخبوية إلى هذا الحد؟ كان جوابي إن الثقافة هي سلوك الفرد في المجتمع، لأن سلوكه في الشارع والبيت والعمل، وتعامله مع كل ما يواجهه في حياته من بشر أو حيوان أو طبيعة أو آلة، هو نتاج ثقافة مجتمع، قد تكون غير مدروسة فتأتينا بكل فجاجة وبجاحة ووقاحة بسلوك غير مرسوم له خارطة الطريق، أما ثقافة الشعوب الراقية فهي تلك الوليدة من خطط معدّة ومرسومة من قبل وعي وإدراك مبكر لما يُراد من هذه الشعوب أن تكون عليه في المستقبل، حتى إن كانت الخطة لما بعد مئة عام. المهم هو الوصول إلى ذلك السلوك الحضاري الذي نسميه ثقافة الشعوب، وهي الثقافة الأهم التي تتولد عنها كل الثقافات الخاصة بالموسيقى، والشعر والرسم والغناء والكتابة، لأن كل هذه الفنون هي وليدة ثقافة شعب، وليست حالات منعزلة أو نخبوية، إنها الثقافة المتولدة من أساس متين.
توابل
تواصل مقطوع
15-09-2008