كنا في جلسة ضمت مجموعة من الأدباء والصحافيين العرب المقيمين في لندن، بعد أيام من فوز الروائي نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب كأول روائي وأديب عربي يحصد الجائزة التي يتكالب البعض عليها ويرفضها آخرون.

Ad

وكان النقاش يدور حول شبهة الجائزة وعلاقتها بالتطبيع المصري مع اسرائيل، وكنت أيامها اصغر المتحاورين سنا، مما جعلني أفضل الاستماع للأساتذة، وحين صمت الجميع انتهزتها فرصة لأسأل: من هو أحق بالجائزة من نجيب محفوظ عربيا؟ فجاء الاسم الذي طرحه أكثر من جليس وأثنى الجميع عليه على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم مخالفا لتوقعاتي. توقعت أنهم يدافعون عن محمود درويش أو أدونيس، لكنهم قالوا سليم بركات، فعدت الى صمتي ثانية: من هو سليم بركات؟ قلت في نفسي.

اشتريت رواية «فقهاء الظلام» من لندن وقرأتها وكأنني أقرأ رواية كردية كتبت بالعربية لعوالم لا يتقنها الا الكبار أمثال ماركيز واستورياس، لغة عربية أعتى من قدراتي الطرية وعوالم تتردد بين الموجود واللاموجود، لغة تستنطق الكائن والمحتمل الكينونة ترسم الأمكنة الحاضرة وتستحضر الأمكنة الغائبة. ومازال حتى اليوم، بعد عشرين سنة، محفورا بذاكرتي تصويره للحيوان الذي تشكل انسانا ولد في الفجر وتزوج في الظهيرة وشاخ في الغروب.

امتدت الرحلة وكأنني عثرت على كنز من العوالم الخصبة، غيرت نظرتي عما يكتب بالعربية فقرأت لسليم الجندب الحديدي وأرواح هندسية ومعسكرات الأبد والريش والديوان. ولجأت اليه مرجعا تاريخيا وجغرافيا وأنا أكتب عن التجربة الكردية في شمال العراق في أولى رواياتي «عاشقة الثلج». وربما المثلب الوحيد الذي آخذه على هذا العبقري هو تناوله فضاءات خارج حدود الزمن الذي يعيشه، فلم أقرأ له ما يصف ايام شعبه المرعبة تحت وطأة النظام الاستبدادي في العراق خصوصا، وأكثر من ذلك ابتعد سليم بركات بعوالمه الغارقة برمزيتها عن قارئه العربي والكردي الذي يجيد العربية، أما فنيا فانني اتفق مع محمود درويش وهو يقول عنه «سليم بركات أفضل من كتب باللغة العربية في العقدين الأخيرين»، وربما لم يكن درويش مجاملا حين قال «أتجنب ألا أتأثر به»، وقد عمل معه في قبرص سكرتيرا لتحرير «الكرمل» قبل أن يأخذه المنفى الى السويد.

جاءت رحلتي الأخيرة لأقرأ كل ما فاتني من الأدب المكتوب باللغة الأخرى، وبعد ثماني سنوات من تلك القراءات والعودة الى مقاعد أدب جديد لم أنسَ سليم بركات وعوالمه، وكلما ناقشني باحث أو مستشرق عن الأدب العربي طرقت له الاسم فقال «لا، هذا صعب على لغتي الثانية»، وأوكد له أنه صعب على أهل الضاد أيضا.

أثناء وجودي في معرض الكتاب الأخير بالكويت، لم أجد سوى نسخة واحدة من أعمال سليم بركات الأخيرة بعنوان «السلالم الرملية»، لكن الصديق عبدالرحمن حلاق عاد من الشام بروايتين هما أجمل ما تلقيت من مسافر.

«عبور البشروش» و«كهوف الهايدراهوداهوس». جلست ثلاث ليال متواصلة أعيش سر الغوايات وبهجة الخرافة وأنصت لصوت الحجر الأسطوري في تلك الكهوف التي غاب فيها البشر وحضر البشري في الرواية الثانية. أما البشروش فهي عالم من عوالم سليم المتعددة، يفضح فيها سر الأمكنة ويسترجع صدى الريح، يأنسن الظلال ويحاكي الطير، يطوع اللغة للأعشاب ويصقل الفلز، يسترجع عوالم قراه النائية ويستحضر بهاء المدن ويظل قاسيا على أناسها: «قربت العين الزجاجية، الكروية، الطرية أيضا، من وجهي أتأمل اشراقة الفلز الذي في جرمها المائي الكثيف»: «انها تشبه عين جانو» هذا ما قلته لمخيلتي، ثم ضحكت من فكاهة سردها لي ذات مرة، فحواها أن مدرسا ساله: «ألا تشعر باهانة من أن الأكراد يطالبون بمدرسة لهم؟» فكان رده، كما أخبرني، استغرابا «لم أفهم سيدي...»، فاحتد المدرس: «أنتم عباقرة بجهلكم، فلماذا تهينون هذه الهبة الالهية؟».