المستفاد من حكاية الشّيخ العرياني هو أن ادعاء المشيخة والكرامات أمام البسطاء المغفلين أمر جائز، بل مطلوب جداً، لضمان مصلحة المالك... لكن الأمر ينبغي ألاّ يخرج عن هذا الإطار، كأن يصدق المحتال أنه شيخ حقيقي، فيصطدم عنوة بالمالك الذي اخترعه وثبّت ادعاءه.

Ad

في رواية «الطريق الوحيد» للكاتب التركي الساخر «عزيز نيسين»، نواجه نمطاً عجيبا من الأبطال، إذ نعدو وراء مغامراته بشوق ولهفة، عبر ما يزيد على خمسمئة صفحة، دون أن نعرف من هو بالضبط، ودون أن نعرف ما اسمه، ذلك لأنه هو نفسه يعترف لنا منذ بداية الرواية بأنه يغلط في بعض الأحيان بشخصيته الحقيقية وباسمه الحقيقي لكثرة ما انتحل من شخصيات وأسماء طول حياته، حتى لم يعد يستطيع تعداد الشخصيات المزورة التي تقمصها!

وكان من الطبيعي أن يمضي هذا النصّاب أعواماً عدّة في السجون، وقد كسب في إحدى فترات سجنه مبلغاً من المال، عن طريق النصب أيضا، وهو داخل السجن، ففكر بأن يسافر إلى بلدة بعيدة ويفتح له دكاناً فيها... لكنه، كغيره من ركاب الحافلة التي استقلها، وقع ضحية عصابة قطّاع طرق جرّدته من ماله، فاضطر إلى السير في الجبال تحت الأمطار الغزيرة، واهتدى إلى كهف في أطراف إحدى القرى، فدخله عارياً بعد أن ترك ثيابه فوق شجيرات في الخارج حتى تجف، وبعد فترة، جاء بعض أفراد العصابة إلى حيث يختبئ، لكنهم بدلاً من أن يقتلوه، حيّوه باحترام يليق بصوفيّ كبير، ومنحوه شيئاً من الطعام والأغطية.

ولم يمض وقت حتى شاع أمره في القرية المجاورة، فأقبل البسطاء إليه طلباً لكراماته، وصاروا يسمونه «الشيخ العرياني»!

ومضت الأيام وهو مستمتع بعطايا المساكين المؤمنين بكراماته، حتى حلت به ذات يوم لحظة عصيبة، حين أبلغه بعض مريديه بأن «البيك» يطلب الإذن بزيارته ليأخذ بركة دعائه. و»البيك» هذا هو مالك لعشرات من القرى التي يلوذ الأفّاق بإحداها.

لكن البيك أبدى للعرياني عند لقائه به كل معاني الخضوع والولاء، ولم يتردد عن تقبيل يده والإمساك بلجام حصانه أمام الناس، ثم دعاه لزيارة قصره فلبي الدعوة مضطراً، لأنه برغم كل ما يبدو من مظاهر الهيبة، كان ينطوي على أسراره القبيحة التي يخاف افتضاحها.

وعندما انفرد الشيخ العرياني بمضيفه بعد العشاء، دعاه الأخير إلى شرب كأس من الخمر، فصعق، واعتذر بأنه على وضوء فصرخ البيك عندئذ: «أعلينا هذه المظاهر؟ اشرب يا كافر»!

وحين لم يجد المحتال مفراً، كرع الكأس تحت طائلة الخوف، فامتدحه البيك قائلا: «أحسنت يا كبير الديّوثين... لو لم تشرب لهويت بقبضتي على نقرة رأسك، وعندئذ سيخرب وضوءك بجد، لانك ستعملها في ثيابك».

ونفهم من ذلك أن البيك كان على علم بحقيقة المحتال، لأنه، على حد قوله، لا يطير طائر من تلك المنطقة دون علمه... ونعرف بعد ذلك أنه هو الذي أمر أتباعه بأن يجعلوا من هذه النصّاب شيخاً، بعدما عرّوه من كل شيء، لأن القرى بعد زوال شيخها السابق، كانت بحاجة إلى شيخ آخر تلتمس عنده الحاجات، ويمكنه أن يملأ الفراغ الذي لا وقت عند ذوي الأملاك لملئه.

يقول البيك: «ليس عند إنسان هذه المنطقة طبيب، ولا قابلة، ولا دواء، ولا عمل، ولا نقود... وعندما لا يكون عنده شيء يقول لو كان عندي شيخ على الأقل».

ونعلم أن سبب زوال الشيخ القديم هو أنه حمى عصابة إجرام وخبّأ أفرادها عنده، بينما كان القائم قام التابع للملك قد قضى على كل عصابات قطاع الطرق، وأبقى على عصابة واحدة فقط «لسدّ حاجة المنطقة للمجرمين»!، ولذلك فقد وبّخ الشيخ السابق قائلا: «كيف تحمي عصابة مجرمين، بينما لدينا عصابتنا؟» ثم طرده من المشيخة بتهمة معارضة الجمهورية والثورة!

المستفاد من تلك الحكاية هو أن ادعاء المشيخة والكرامات أمام البسطاء المغفلين أمر جائز، بل مطلوب جداً، لضمان مصلحة المالك... لكن الأمر ينبغي ألاّ يخرج عن هذا الإطار، كأن يصدق المحتال أنه شيخ حقيقي، فيصطدم عنوة بالمالك الذي اخترعه وثبّت ادعاءه... لأنه، حينئذ، سيخرج من كراماته الموهومة بركلة حقيقية على مؤخرته بتهمة خيانة الجمهورية والثورة!

أتأمل مشهد المالك مع الشيخ العرياني، فتحضر في ذهني طائفة من الشيوخ العريانين المتناثرين على طول الخريطة التي تضم القرى وأمها أيضا، في نسق غير متناسق من اللغات والسحنات والأزياء.

وحسبنا أن نتذكر، على سبيل المثال، نورييغا بنما، والبهلوان الأخضر، والحلاّق الثرثار، وخفرع، وجرذ تكريت الزّاهق، وغيرهم، كنماذج للذين يرفعون عصيّهم، بكل بسالة، لقطعان البشر في القرى التي هم رعاتها... لكنهم يخفضون مؤخراتهم- بكلّ تهذيب- لعصا المالك الذي أكرم عريهم بالمشيخة، ونثرهم كالنجوم في مربع أزرق وضع تحته خطوطاً حمراء، تذكيراً بالمصير الدامي لمن يجتاز حدوده، ولا يواصل السير على الصراط المستقيم!

* شاعر عراقي