تناولت في مقال الاثنين الماضي القضيتين المشار إليهما في العنوان وتحته، اللتين صدر الحكم فيهما في مصر والكويت في تاريخين متقاربين، أولهما في 18/11 وثانيهما في 26/11/2008، وقلت إن محورهما واحد هو مدى اعتبارهما من العلاقات الدولية، ومدى اعتبارهما من أعمال السيادة التي لا يبسط القضاء ولايته عليها، خصوصاً أن الحكومة دفعت في القضيتين باعتبارهما عملاً من أعمال السيادة.

Ad

ونتناول في هذا المقال الحكمين الصادرين في القضيتين لبيان ما قضى به كل منهما:

قضية طرد سفير الدنمارك من الكويت

وكانت الحكومة قد دفعت الدعوى بعدم ولاية القضاء بنظرها باعتبارها من أعمال السيادة، إعمالاً لحكم المادة (2) من المرسوم بقانون رقم 23 لسنة 1990 بقانون تنظيم القضاء وهو ما اضطر معه المدعيان إلى الدفع بعدم دستورية هذا النص لمخالفته أحكام المواد 2 و 6 و 12 من الدستور.

المحكمة تقضي بعدم ولاية القضاء

حيث قضت المحكمة الكلية بجلستها المعقودة بتاريخ 7/5/2008 بعدم اختصاصها، باعتبار أن طرد السفير الدنماركي هو من أعمال السيادة التي تنحسر عنها ولاية القضاء، بعد أن رفضت الدفع المبدى من المدعيين بعدم دستورية أعمال السيادة، لعدم جديته، على أساس أن إقامة العلاقات، وقد أسست المحكمة قضاءها على أن إقامة العلاقات الدبلوماسية أو قطعها أو ما تقرره الدول في الأزمات التي تتعرض لها هذه العلاقات من اعتبار سفير دولة ما شخصاً غير مرغوب فيه أو طرده من البلاد، وهو عمل من أعمال السيادة التي تمارسها الدولة كسلطة حكم لا إدارة، ولا تخضع لرقابة القضاء.

الطعن بعدم دستورية أعمال السيادة

ولئن كان الحكم سالف الذكر قد أصاب الحق فى قضائه عندما اعتبر امتناع الحكومة عن طرد سفير الدنمارك عملا من أعمال السيادة، إلا أن ذلك قد فجر قضية أخرى هي مدى دستورية منع القضاء من نظر أعمال السيادة، حيث سلك المدعيان طريق الطعن أمام المحكمة الدستورية، فيما قضى به حكم المحكمة الكلية من عدم جدية الدفع بعدم دستورية نص المادة (2) من المرسوم بقانون رقم 23 لسنة 1990 المشار إليه والذي حجب القضاء عن أعمال السيادة، وهو الطعن الذي نظرته دائرة فحص الطعون بالمحكمة الدستورية وقضت فيه بعدم قبوله، بعد أن صار حكم المحكمة الكلية نهائياً، بتأييد محكمة الاستئناف له في حكمها الصادر بجلستها المعقودة بتاريخ 27/7/2008.

أي أن المحكمة الدستورية لم تتعرض لموضوع الطعن بعدم دستورية النص المانع من اختصاص القضاء بالدعاوى المتعلقة بأعمال السيادة، بل قضت بعدم قبول الطعن لسبب شكلي شاب إجراءات الطعن.

قضية تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل

في هذه القضية أصدرت محكمة القضاء الإداري (الدائرة الأولى) بجلستها المعقودة بتاريخ 18/11/2008 حكمها القاضي بإجابة المدعي إلى طلبه وقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، باعتباره طلباً مستعجلاً إلى أن تفصل المحكمة في موضوع الدعوى، وهو إلغاء القرار.

الدفع أمام المحكمة بأعمال السيادة

وكان من بين الدفوع التي دفعت بها الحكومة الدعوى، الدفع بعدم اختصاص المحكمة بنظرها، لأنها تتعلق بعمل من أعمال السيادة التي لا يختص القضاء بنظرها إعمالاً لأحكام المادة (11) من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972، التي تنص على أن «لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر في الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة».

وقد قضت المحكمة بعدم قبول الدفع المبدى من الحكومة بعدم اختصاصها، واختصاصها بنظر الدعوى، تأسيساً على ما جاء في أسباب الحكم أن أعمال السيادة هي تلك التي تصدر من الحكومة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة، فهي تارة تكون أعمالاً منظمة لعلاقة الحكومة بمجلسي الشعب والشورى أو منظمة للعلاقات السياسية بالدول الأجنبية، وهي طوراً تكون تدابير تُتخذ للدفاع عن الأمن العام من اضطراب داخلي أو لتأمين سلامة الدولة من عدو خارجي.

وأن أعمال السيادة بهذا المفهوم- والتي تتصل اتصالاً وثيقاً بنظام الدولة وسيادتها في الداخل والخارج- لا تمتد إليها رقابة القضاء، أما غير ذلك من القرارات الإدارية أو الأعمال التي تمارسها الحكومة بوصفها سلطة إدارية فإنها تخضع لرقابة القضاء الإداري طبقاً لأحكام الدستور والقانون، باعتباره صاحب الولاية العامة والقاضي الطبيعي المختص بنظر الطعون في القرارات الإدارية النهائية سلبية كانت أم إيجابية.

وإن الطعن على تصدير الغاز إلى إسرائيل يدور حول سلطة الإدارة في تنظيم واستغلال موارد الدولة، وإحدى ثرواتها الطبيعية والتصرف فيها، وقد اختصمها المدعي كسلطة إدارية تقوم على هذا المرفق، وينبغي عليها أن تلتزم في ذلك حدود الدستور والقانون وضوابطهما. وهذا من جانب جهة الإدارة يعد من صميم وظائفها الإدارية ومن الأعمال التنفيذية التي تمارسها الحكومة بوصفها سلطة إدارية، ومن ثم لا يعد تصرفها في هذه الحالة ولا القرار الصادر بشأنه من أعمال السيادة بالمعنى القانوني والدستوري، إنما يعتبر من قبيل أعمال الإدارة التي يقوم القاضي الإداري دون سواه على ولاية الفصل فيها طبقاً لنص المادة (172) من الدستور.

ومتى كان ذلك فإن للمحكمة أن تبسط رقابتها على القرار المطعون فيه، ويضحي الدفع المبدى بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الدعوى- في هذه الحالة- في غير محله متعيناً رفضه.

وقد استخلصت المحكمة من ظاهر أوراق الدعوة أن تصدير الغاز إلى إسرائيل لا يستقيم مع ما تقضي نصوص الدستور المصري من حرمة الملكية العامة، وإلزام كل مواطن بواجب حمايتها ودعمها باعتبارها سنداً لقوة الوطن (مادة 33 من الدستور).

ومن ضرورة تنظيم الاقتصاد القومي وفقاً لخطة تنمية شاملة تكفل زيادة الدخل القومي وعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة والقضاء على البطالة، وزيادة فرص العمل وضمان حد أدنى للأجور (م23 من الدستور)، ومن ثم قضت المحكمة بوقف تنفيذ قرار تصدير الغاز إلى إسرائيل بصفة مستعجلة.

تحية لهذا القضاء

وقد صدر هذا القضاء الشامخ من الدائرة الأولى من محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار د. محمد أحمد عطية رئيس المحكمة وعضوية المستشارين منير محمد غطاس وفوزي علي حسين شلبي، نواب رئيس مجلس الدولة.

ولئن كانت أحكام القضاء هي عمل لا فضل فيه لأحد على الآخر، إلا أنه من الجدير بالذكر أن الدكتور محمد عطية، هو واحد من ألمع المستشارين الذين عملوا في إدارة الفتوى والتشريع في الكويت في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وقد أسهم بجهد كبير في جمع وتبويب التشريعات الكويتية في مدونات حملت اسمه في الطبعات الأولى للمجموعة القيمة للتشريعات الكويتية التي تصدرها هذه الإدارة منذ أواخر السبعينيات.

وقد أرست المحكمة في حكمها سالف الذكر قضاءها في مسألتين مهمتين سوف أتناولهما فى مقالين قادمين بإذن الله: أولهما انحراف الحكومة بسلطتها عندما صدرت الغاز إلى إسرائيل، ومخالفتها للدستور الذي يوجب عليها عرض كل استغلال للثروة الطبيعية على مجلس الشعب ليقرر منحه بقانون.