لا يستطيع كل الناس وفي جميع الأوقات أن يقفوا من أعدائهم أو ظالميهم أو حتى رؤسائهم في العمل أو منازعيهم على المصالح والمطامح موقف المعارضة الواضحة السافرة, ولذا يلجؤون إلى «خطاب مستتر» أو «سياسة تحتية» أو «موروث خفي» يشكل نوعا من التحايل، الذي يقي من الانسحاق الكامل، أو التسليم النهائي بشروط كل من يمارس سلطة أو سطوة على الفرد أو الجماعة البشرية.

Ad

ومثل هذا النوع من المقاومة يغلِّف نفسه بالبراءة والبساطة والخنوع، لكنه في حقيقة الأمر، يحمل رسائل قوية في باطنه لمن لا سلطة لهم، ويبدو «ضربة عنيفة مستقيمة بعصا عوجاء» كما يقول المثل الجامايكي. وقد مورس هذا السلوك كثيرا في تاريخ الإنسانية، ولايزال وسيظل. مارسه الرقيق والعبيد في مواجهة الأسياد، والسود في وجه البيض، والأُجراء في مواجهة أصحاب الأعمال، والمزارعون في وجه الملاك، في سبيل أن يُفشِلوا خطط مَن بيدهم الأمر في الاستيلاء الفعلي على عملهم وإنتاجهم وممتلكاتهم ومصالحهم القليلة. وتنطوي هذه الممارسة على نوع من التمثيل، تم فرضه على الأكثرية الساحقة من البشر عبر مجرى التاريخ، والذي يشتمل على شكل من الخضوع الزائف.

ويعبر الأديب الفرنسي بلزاك عن المقاومة بالحيلة بعبارة بليغة دالة في روايته «الفلاحون» تقول: «يا أبنائي، لا تقتحموا الأشياء مباشرة، أنتم ضعفاء جداً، خذوها مني، اقتحموها جانبياً ... تظاهروا بأنكم أموات، تمثلوا دور الكلب النائم». وقد حفل سلوك الناس بما يدل على أنهم قد وعوا هذه النصيحة قبل أن يولد بلزاك بآلاف السنين. ففنون التنكر السياسي متعددة، من قبيل «الاستغفال» أو ستر الهوية، مثل استخدام السحر في جلب الأذى للأعداء، والعنف مجهول الصاحب، والثرثرة ونشر الشائعات، والتعريض الناعم بالآخرين عبر استخدام التعبيرات والألفاظ اللطيفة، وهناك أيضا التذمر أو الغمغمة بوصفها شكلاً من أشكال الشكوى المقنَّعة، وإبداء الشعور العام بالاستياء من دون تحمل الشكوى العلنية المحددة.

وقد اتخذ التنكر السياسي أشكالا أكثر إحكاما وديمومة، حملتها الثقافة الشعبية أو الجماعية، مثل الأغاني والرقصات والأمثال والطقوس والنكات والنوادر والحكايات الشعبية، التي تنطوي على قيم تنطوي على الصبر، وتنتصر للحق في وجه الباطل، والعدل في وجه الظلم، وتسخر من المتغطرسين والمتجبرين، وأصحاب الثروات الحرام، والمناصب غير المستحقة. ويصل الأمر عند بعض الشعوب إلى استخدام «المفارقات الرمزية» التي تناقض طبيعة الأشياء ومجريات الحياة، مثل القصص التي تروي مغامرات الفئران التي تأكل القطط، والأرانب التي تخيف الصيادين، والثور الذي يذبح الجزار، والأوزة التي تضع الطاهي في القدر، والسمكة التي تطير في الهواء، والفقير حين يحسن إلى الغني.

ويتوقف مستوى التنكر والتحايل على درجة القهر والظلم التي تقع على المستضعفين، فكلما كان القوي أكثر خطراً، كلما كان القناع الذي يتخذه الضعيف أكثر سمكا. ولذا يصل القهر مستواه حين لا يكون أمام المقود سوى اتباع القائد، حتى ولو لم يكن لديه أي اقتناع بما يجري. وهناك واقعتان ملموستان يمكن أن يذكرا هنا للبرهنة على هذا. الأولي سجلها عبد الغفار مكاوي في كتابه «جذور الاستبداد» عن «حوار السيد والعبد» كما وجد في المعابد البابلية القديمة، والذي يدور على هذا النحو:

«ـ أيها العبد أنصت إلي.

ـ ها أنذا يا سيدي ها أنذا.

ـ اذهب واحضر المركبة وأعدها لأذهب إلى القصر.

ـ اذهب يا سيدي. اذهب، سأكون تحت تصرفك.

ـ لا أيها العبد. لن أذهب للقصر لن أذهب.

ـ لا تفعل يا سيدي لا تفعل.

ـ ....

ـ أسرع واحضر المركبة وأعدها للرحيل، أريد أن أمضي للخلاء، للريف المفتوح.

ـ اذهب يا سيدي اذهب.. فالصياد يملأ جوفه، وكلاب الصيد ستكسر عظام الفريسة، وصقر الصياد سيهبط عليها.. والحمار الوحشي سيعدو مسرعا..

ـ لا يا عبد. لا.. لن أمضي إلى الخلاء. لن أمضي للصيد.

ـ لا تفعل يا سيدي. لا تفعل، إن حظ الصياد متقلب، كلب الصيد ستنكسر أسنانه، وصقر الصياد سيرجع إلى عشه، والحمار الوحشي سيهجع إلى حظيرته في الجبال».

إن العبد هنا يجاري السيد، لأنه لا يملك القدرة على مخالفته، لكن هذا لا يعني اقتناعه بما يجري أو احترامه لسيده، وكأنه يحقق المثل الأثيوبي الذي يقول: «حين يمر السيد العظيم، ينحني الفلاح الحكيم انحناءة عميقة، بدهاء ثم يذهب بصمت».

أما الثانية فيسردها جيمس سكوت في كتابه القيِّم والمهم «المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم؟»، وتتمثل في اللعنات التي كان يصبها العبيد في جنوب الولايات المتحدة ضد «أسيادهم» البيض، وتوسلهم إلى الله أن ينتقم منهم. فها هي امرأة من السود تقول:

«يا سيدي الإله، إنني أتوسل إليك أن تحقق ما أتمناه لأعدائي، أن تجعل ريح الجنوب تترقب أجسادهم وتجعلهم أكثر بياضا ولا ترحمهم، وأن تجعل ريح الشمال تجمد الدم في شرايينهم، وتمزق عضلاتهم... إنني أتضرع لكي يصبح الموت والداء رفيقي عمرهم. أتضرع لكي لا يتضاعف عدد أجسادهم أو حجمه. أتضرع لكي يحدث لأبقارهم، لخرفانهم، لخنازيرهم، ولكل المخلوقات التي يمتلكونها، أن تموت جوعا وعطشا... يا سيدي الإله إنني أتوسل إليك أن تحقق هذا كله، لأنهم مسحوا بي الأرض، ومرغوني بالوحل والغبار، وحطموا اسمي الطيب، لأنهم حطموا قلبي، وجعلوني ألعن اليوم الذي ولدت فيه... آمين».

وقد بلغ التحايل مكانة ملموسة ووزناً محسوباً إلى الدرجة التي تعتمد فيها السلطة نفسها صيغا وأشكالا منها في سبيل الحفاظ على سيطرتها ومصالحها. فالحكام كثيراً ما يستخدمون التورية والتمويه في التعمية على شيء ذي قيمة سلبية، أو من شأنه أن يخلق وضعاً مربكاً إن تم الإفصاح عنه بشكل علني. ومن أمثال هذه التوريات أن يقال «فرض السلام» للتعبير عن الهجوم المسلح وما يصحبه من غزو واحتلال، واستخدام كلمة «العقوبة القصوى» للتعبير عن الإعدام، وجملة «معسكرات إعادة التأهيل» للتعبير عن السجون التي يُزج فيها المعارضون السياسيون. كما تزعم السلطة وجود «الإجماع» الظاهري للإيحاء بتوافر حال من الرضاء والقبول لدى الجماعات المحكومة، واستعمال الإجماع العقائدي الذي يتمثل في الالتزام الحزبي أو الانتماء الإيديولوجي أو التحسب للذات الملكية، في الوصول إلى النتيجة نفسها. وتستخدم السلطة أيضا «الاستعراض» لهذا الغرض أيضا، حيث يحرص القادة السياسيون وكبار المسؤولين على حضور الحفلات الرسمية والمسيرات وحفلات التتويج ومباريات كرة القدم. فالجميع، محكومون وحكام، في حاجة إلى المقاومة بالحيلة أحياناً.

* كاتب وباحث مصري