من بين أساليب المقاومة المدنية يبرز «فن الكاريكاتير» متوسلا بالرسم دوما والكلمة أحيانا ليعبر عن موقف أو اتجاه معين، لابسا ثوب الفكاهة والتندر ليس بغية الضحك والتسلية إنما لإطلاق الخيال وشحذ الطاقة العقلية لاستنباط أفكار وتصورات محددة وتشكيل صورة ذهنية بعينها أو ترسيخها حيال شخصيات وهيئات وأحداث. ويتوزع الكاريكاتير على السياسي والاجتماعي والإنساني والفكاهي، وقد تختلط هذه الأنواع جميعا أو اثنان منها. وهو يتسم بخصائص جلية منها المبالغة في إظهار العيوب، والتبسيط، واعتماد الفكاهة، وتخطي حواجز الموضوعية، والاتكاء على الطبيعة الضمنية للصورة المرئية والإقناع البصري. كما يتوسل هذا الفن بخصائص أسلوبية واضحة منها التكثيف والجمع بين العديد من العناصر، وتقريب الأفكار والأحداث إلى ذهن المتلقي أو القارئ.

Ad

وبداية فإن كلمة كاريكاتير Caricature تنحدر من أصل كلمة إيطالية هي Caricare التي تعني «المبالغة» أو تحميل الشيء أكثر من طاقته، ثم أدخل الرسام البريطاني وليم هوجارت (-1697 1764) هذه الكلمة إلى اللغة الإنكليزية ليصف بها رسومه الساخرة. ويطلق عليه الرسام المصري الشهير بهجت اسم «التشخيص»، ويقول: «لعلي لا أكون مخطئا حين أعتمد كلمة تشخيص كترجمة لهذا الفن الوافد الذي عرفته العين المصرية والعربية، خلال الحرب العالمية الأولى، باسم «فن الكاريكاتير»، لأنه فن المبالغة في رسم ملامح الأشخاص، وفي التعبير عنهم في المواقف التي يكونون أطرافا فيها، لذلك يكفي شارب هتلر وطريقة تصفيفه لشعره وتكشيرة وجهه للدلالة على نازيته، وتكفي أنف ديغول للدلالة على صلفه واعتزازه بنفسه، وسيجار تشرشل للدلالة على مكره، وصلعة مصطفى النحاس للتعبير عن الطيبة التي توحي بالسذاجة، وقامة علي ماهر القصيرة المدكوكة للدلالة على شخصيته الماهرة في تدبير المقالب».

وحسب ما تهديه إلينا بعض الدراسات المهمة مثل أطروحتي الماجستير لعمرو عبد السميع ومي إبراهيم حمزة فإن هذا الفن يضرب بجذور عميقة في تاريخ الإنسانية حتى إن لم يأخذ المصطلح الحديث المعروف به الآن. فكهوف العصر الحجري تحفل بصور هزلية جلية، والفراعنة رسموا صوراً تتهكم على الحكام حين صورهم بأجسام ضخمة تحملها أكتاف عبيد ضئيلي الأجسام، وحين صور الراعي هزيلا وأبقار النبلاء مفرطة في السمنة. وهناك رسمان يعودان إلى نهاية الأسرة العشرين يعبران بقوة ظاهرة عن موقف سياسي، الأول يصور ذئبا يرعى الغنم بعد أن ارتدى ملابس الرعاة وأمسك عصاة ومخلاة وراح يهش على قطيع من الغنم والماعز. والثاني يصور فأرا يجلس منتفخا على كرسي فخم، مرتديا ملابس الوجهاء، وفي إحدى يديه كأس مملوءة بشراب وفي الأخرى زهرة، بينما يقف القط على خدمته، ممسكا مروحة وزهرة ومنديل. وقلب المصريون الرسم ليسخروا من الدولة البيزنطية فصورها الرسام آنذاك على أنها قط مريض والفئران تحمل إليه الدواء وهي ترفع الرايات البيض.

وعرف الإغريق الأقدمون رسامين يصورون شخصيات شهيرة بطريقة تبعث على الضحك، في مقدمتهم بوزدن الذي تعرض لتعذيب مفرط من جراء رسوم من هذا النوع. واستخدم الصينيون الرسم في التندر على نمطية حياتهم ورتابتها وجمودها وارتهانها بالظروف والتقاليد.

ولما اخترعت الطباعة أعطت «الرسوم السياسية والاجتماعية» دفعة قوية، إذ لم تعد الصور ثابتة، محفورة على الأحجار والأخشاب، بل تحركت على الورق، وتناثرت إلى أيدي الناس. وفي ألمانيا توسل البروتسانت بالرسم للسخرية من سلطة الكنيسة وتقاليدها الرجعية، فصورا «البابا الحمار» و«القس العجل». لكن تلك الرسوم صارت «الكاريكاتير» بشكله المعروف لدينا الآن من حيث التقنية واستهداف الرأي العام خلال القرن الثامن عشر في انكلترا التي كانت تتمتع وقتها بدرجة مناسبة من حرية التعبير، وتمر بظروف هيأت لأهل الرأي سبيلا لينخرطوا في التفكير والتحليل وقيادة الناس. وعلى التوازي عرفت إيطاليا وإسبانيا وألمانيا هذا الفن الساخر، وإن كانت قد ركزت على الجوانب الاجتماعية، بدءا من العادات والتقاليد البالية وانتهاء بالموضة والأزياء. وفي فرنسا تم توظيف الكاريكاتير في مهاجمة الملكية وتأييد سياسات نابليون بونابرت، أما في الولايات المتحدة الأميركية استخدم لحض الأميركيين على التوحد ونبذ الفرقة.

ثم عرف العالم الصحافة المختصة بهذا الفن على يد الصحافي والثائر الفرنسي فليبون عام 1831 الذي أسس صحيفة أسبوعية مصورة ساخرة أسماها La Caricature ، ومع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ظهرت في ألمانيا مجلتان معنيتان بتاريخ الكاريكاتير تأثرتا كثيرا بالاتجاهات الجديدة في الفن التشكيلي التي كانت سائدة أيامها، الأولى تسمى (الشباب) Jugend والثانية هي (التبسيط) Simplicissimus ثم ظهرت عدة مجلات في الولايات المتحدة أهمها Puck التي أسسها جوزيف كيبلر عام 1877 وThe Judge التي أسسها جيمس ويلز عام 1883. وقبل القرن العشرين لم تكن الصحف الكبرى تنشر الكاريكاتير، لأنه في نظر القائمين عليها فن ساخر لا يليق بالصحافة المحترمة أن تتحمس له، وتعرضه على الجمهور.

وفي عام 1525 استخدم مارتن لوثر، مؤسس البروتستانتية، الكاريكاتير في مقاومة سلطة الكنيسة الكاثوليكية، إلى درجة أن أحد المقربين من الباب ليون العاشر يرجع نجاح حركة «الإصلاح الديني» إلى هذا الفن الساخر. ومن أهم صور الكاريكاتير التي استخدمها لوثر هي شخصية «القس العجل» الذي تعبر أذناه الطويلتان عن الغباء، ويتدلى لسانه ليرمز إلى تفاهة ما يقول، ويدل زيه الديني الممزق على تخبطه وتهافت وتناقض خطابه.

وتم توظيف الكاريكاتير في الثورة الفرنسية، واستعمل على نطاق واسع في الجدل الأيديولوجي الذي أعقبها وامتد من فرنسا إلى إنكلترا. وصرخ السياسي الأميركي وليم تويد ألما من الأثر البالغ الذي أحدثته رسوم توماس ناست، وقال قولا شهيرا في هذا الشأن مفاده: «أوقفوا هذه الرسوم الملعونة، أنا لا أهتم بما تكتبه الصحف، فالناخبون لا يستطيعون القراءة، لكن بوسعهم مشاهدة الرسوم وفهمها». وعزا كثيرون انكسار هجوم هتلر على الاتحاد السوفييتي المنهار إبان الحرب العالمية الثانية إلى عوامل عدة، كان من بينها رسوم ميخائيل كوربانيوف ويورفيري كوريلوف ونيقولا يوخولوف، التي نشروها في صحيفة «البرافدا» بتوقيع مشترك هو «كوكر يتسكن» حيث أيقظت مشاعر الناس، ودفعتهم إلى مقاومة الغزاة الألمان... ونكمل في المقال القادم.

* كاتب وباحث مصري