اندلعت الحرب في 13 أبريل (نيسان) 1975 وتفاقمت الأحداث ووقعت الكارثة، وتحولت العاصمة والعديد من المناطق اللبنانية إلى مسرح لأعمال حربية خلّفت عشرات آلاف الضحايا ودماراً هائلاً. استحالت بيروت الزاهية ركاماً وأنقاضاً، واستفاقت عواصم القرار، وتدخلت مع اللبنانيين للتوصل إلى ما يؤدي إلى وقف لإطلاق النار، واستعادة الأمن والاستقرار، والبحث عن حل سياسي للأزمة. ووصل إلى سدة رئاسة الجمهورية حاكم مصرف لبنان إلياس سركيس في عملية انتخاب مبكر، ومعه سعينا إلى إعادة بناء الدولة بكل مؤسساتها لاسيما جيشها وأجهزتها، وإلى إعادة الثقة إلى اللبنانيين بمستقبلهم ومستقبل وطنهم.

Ad

لم تمنعني صعوبات التركيبة اللبنانية وتعقيداتها من الانغماس كلياً في مشروع الإنقاذ الذي قاده الرئيس الراحل الصديق إلياس سركيس بصدق وأمانة وشجاعة وحكمة. لم تكن عندي أوهام، وإنما أمل وإصرار كبير على النجاح في تحقيق ما كان يصبو إليه اللبنانيون من استعادة السلام في وطنهم. عملتُ، إلى جانب كثيرين، لإعادة بناء الجيش وتوحيده وتفعيل حضور لبنان في المحافل الدولية، وساهمت في مشروع الوفاق الداخلي بين المتقاتلين، وكدنا ننجح في المهمة التي ألقيت على عاتقنا، لكن الظروف كانت أقوى منا والعواصف الإقليمية مزقت شراع سفينة الإنقاذ، بعدما فوت الفرقاء المحليون الفرصة الضئيلة التي سنحت لنا بين نهاية عام 1976 ومطلع سنة 1978.

ثورة جنبلاط الشاملة

عبّرت مراراً عن مخاوفي من سير الأحداث، فكان أن وصفت بالمتشائم، وبلغني أن رئيس الجمهورية سليمان فرنجية كان في طليعة المعلقين على تصريحاتي غير المتفائلة، وقد رأيت منذ مطلع السبعينيات أن لبنان أبعد ما يكون عن الاستقرار. لم يكن البلد في حاجة إلى نبي ليعرف أنه مقبل على كارثة وقعت في الثالث عشر من نيسان (أبريل) 1975. يومها شعرت أن الاستحقاق الذي طالما سعى اللبنانيون إلى تأجيله حلّ أخيراً. فمنذ توقيع اتفاق القاهرة وأنا أتوقع الانفجار في أي لحظة.

لم يع اللبنانيون في بداية الأحداث أن حرباً طويلة قد اندلعت في بلادهم، وكانوا في معظمهم يظنون أن العملية لن تدوم أكثر من شهرين أو ثلاثة. ففي لاوعي اللبنانيين اقتناع راسخ بأن العالم سيهب لنجدتهم وإعادة الأمور إلى نصابها. من جهتي، شعرت بأننا دخلنا في نفق مظلم، الله وحده يعرف متى وكيف سنخرج منه.

اندلعت المواجهات من جديد في نهاية آب (أغسطس) 1975، وأخذت في تشرين الأول (أكتوبر) طابعاً مأسوياً، مما اضطرني إلى إرسال زوجتي وابني إلى فرنسا بينما بقيت وابنتاي، مارا وريما، في لبنان مدة من الزمن، لكننا لم نلبث أن سافرنا بدورنا إلى باريس حيث أمضيت أسبوعاً انشغلت خلاله في تأمين الجامعة المناسبة لابنتي والمدرسة لابني، وعدت إلى بيروت، وبقيت زوجتي مع الأولاد إلى أن جرى تعييني وزيراً في مطلع كانون الأول (ديسمبر) 1976.

استمرت الأحداث الدامية مطلع 1976 ورافقتها على مدى أربعة أسابيع محادثات بين رئيس الجمهورية سليمان فرنجية والقيادة السورية ورئيس الحكومة رشيد كرامي، أفضت إلى ما عرف «بالوثيقة الدستورية» التي شكلت الورقة الإصلاحية الأولى لإنهاء النزاع اللبناني. لم تكذبني الأحداث فقد استؤنفت المعارك العسكرية والمواجهات السياسية، ووقع ستة وستون نائباً، في الثالث عشر من آذار (مارس)، عريضة يطلبون فيها استقالة الرئيس سليمان فرنجية «حفاظاً على الشرعية وعلى فاعلية المؤسسات الدستورية». وأتبع كمال جنبلاط العريضة بتحذير مفاده أن إصرار فرنجية على البقاء في الحكم سيؤدي إلى «ثورة شاملة». وفي محاولة لتخفيف الاحتقان، جرى التفاهم، بين واشنطن ودمشق وسائر القوى اللبنانية، على إجراء انتخابات رئاسية مسبقة.

مباركة أميركية

كان الرئيس فرنجية، كما سائر الزعماء المسيحيين، يدرك جيداً معنى دخول الجيش السوري إلى لبنان، وعندما سألني عن هذا الأمر أجبته: «ما من حل آخر أمامك، سيدخل الجيش السوري إلى لبنان، ولكن يعلم الله فقط متى سينسحب».

بدأ التداول باسم حاكم مصرف لبنان الياس سركيس لرئاسة الجمهورية جدياً منذ مطلع نيسان (أبريل)، وفي السادس عشر منه، رشحه الرئيس رشيد كرامي في وقت كان رئيس الجمهورية سليمان فرنجية ورئيس حزب الكتائب بيار الجميل أعلنا تأييدهما لوصوله إلى الرئاسة وتبعهما في ذلك الرئيس كميل شمعون.

أدى رئيس الجمهورية الياس سركيس اليمين الدستورية، في الثالث والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1976، وكنا نعرف أن سورية ليست متحمسة على الإطلاق لهذا الخيار. لذلك قال لي الرئيس: «عليك الذهاب إلى الشام لتجتمع معهم، وتشوف شو القصة، وهل بالإمكان تذليل هذه العقبة». لقد كان البلد آنذاك متروكاً لسورية حصرياً برضى الولايات المتحدة التي أحجمت عن الاضطلاع بشؤونه إلا في ما يتناول الوضع في الجنوب.

قصدت العاصمة السورية في الثاني عشر من تشرين أول (أكتوبر) 1976 بمواكبة الرائد السوري إبراهيم حويجي، مساعد رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان محمد غانم. وصلت إلى دمشق، واستقبلني الرئيس السوري بكياسته وهدوئه، وتبادلنا عبارات الود والمجاملة. وفي معرض الحديث عن توجه الرئيس اللبناني لتشكيل حكومة اتحاد وطني من رجال السياسة، نقلت عن الرئيس سركيس قوله: «انتخبت لأني لست رجل حرب، وتعهدت بالحل السياسي، وإذا بذلت جهدي ولم أنجح، فعندها لكل حادث حديث». وأضفت: «هذا لا يعني أنه يضمن التوصل إلى حل سياسي، فهو في كثير من الحالات يشك في إمكانية حصوله، لكنه يبقى مصراً على هذا المسعى».

من جهته، شدّد الرئيس الأسد على وجهة نظره المشككة في نية الحركة الوطنية في الوصول إلى حل سياسي، مشيراً إلى باخرة ضبطت على مقربة من صيدا وعلى متنها 2500 طن من الذخيرة والأسلحة. استمر الاجتماع حتى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وخرجت منه بانطباعين، نقلتهما، في اليوم التالي، إلى الرئيس الياس سركيس: الأول أن سورية تعتبر أن تشكيل الحكومة أمر مفيد جداً. والثاني، أنها مصرة على تجاوز كمال جنبلاط والشيوعيين.

سورية ذهاباً وإياباً

وسط استمرار عقدة التأليف بعد مرور أكثر من شهرين على تسلم الرئيس سركيس لسلطاته الدستورية، كان لابد من زيارة ثانية إلى العاصمة السورية. فقمت بها، في الخامس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1976، في محاولة أخيرة لإقناع دمشق بالحكومة السياسية، وإذا تعذر الأمر فبحكومة غير سياسية لا تتمثل فيها «الجبهة اللبنانية» ولا الحركة الوطنية. عرفت منذ البداية أن مهمتي صعبة جداً، وأشبه بمحاولة تربيع الدائرة، وأن أفضل ما يمكنني التوصل إليه هو التفاهم على فكرة تشكيل حكومة من غير السياسيين. غير أنني عزمت على التمسك بفكرة تشكيل حكومة وفاق وطني لأنها الوسيلة الفضلى لحمل المتخاصمين على التحاور داخل مجلس الوزراء للوصول إلى الحل السياسي المنشود الذي يرسي السلام الحقيقي في البلاد.

نزلت هذه المرة في فندق دمشق الدولي، ومنه انطلقت الى الاجتماع مع الرئيس حافظ الأسد الذي حرص «عمداً»، على ما قيل لي، على استقبالي قبل مفتي الجمهورية حسن خالد، في إشارة إلى من يهمه الأمر، بأنه يولي الاهتمام الأول لرئيس جمهورية لبنان عبر تقديم من ينوب عنه خصوصاً بعد اجتماع الشخصيات الإسلامية المناهضة لدخول الجيش السوري في عرمون.

بعد عبارات المجاملة المتبادلة التي قلت فيها «إن حسن الاستقبال يشجع على الإكثار من الزيارات»، شعرت بأن الأسد يفسح لي في المجال لأدخل مباشرة في صلب الموضوع. واستعرضت معه التطورات الأخيرة، معتبراً أن «دخول قوات الردع العربية إلى لبنان وتمركزها تمّا على أحسن ما يرام بفضل جهدكم وانضباط جيشكم، وأيضاً بفضل التعاون والتنسيق الوثيق بينكم وبين السلطات اللبنانية على سائر المستويات».

وانتقلت بعدها إلى موضوع زيارتي وهو تشكيل حكومة تعبّر عن توجهات العهد من غير أن نتصادم مع دمشق. فأشرت إلى أننا نفكر في تأليف وزارة اتحاد وطني و«كنتم قد تفضلتم وقلتم إن الطابع السياسي يجب ألا نفتقده، وهذا صحيح، لذلك نحن نفكر بحكومة واسعة».

وسأل الرئيس السوري عن الأسماء السنية المتداولة، وعلق قائلا: «لم أر اسم (كمال) شاتيلا في التداول، وهو مهم بالنسبة إلينا، وهناك سواه ممن لم تأتوا على ذكرهم أيضاً». وتطرق في الحديث إلى رئيس الحركة الوطنية: «كمال جنبلاط انتهى، لم يعد يمثّل شيئاً، إلا إذا أردتم أن تفتحوا له باب العودة إلى المسرح بالواسطة»، قلت له: «إن التصلّب سيخلق لكم مشاكل حتى على المستوى العربي»، أجابني: «كلا، حتى مصر تتفهم موقفنا، والرئيس السادات أفهم الرئيس سركيس أنه من الطبيعي أن نلعب دوراً في لبنان». ثم أردف متمنياً أن يكون «الوزير الدرزي الأول أرسلانياً والثاني من آل حمادة» فأجبته ان ذلك «مستحيل تماماً»، لكنه أصر على موقفه، عندها هدّأت الجو وقلت له: «اسمح لي أن أصارحك، يبدو أنكم تريدون أن تقضوا على جنبلاط كزعيم حزب وكزعيم درزي نهائياً». ورد الأسد بالقول: «لا نقضي عليه جسدياً بل سياسياً، أي على زعامته، سيصبح كمال جنبلاط مواطناً أسوة بأي مواطن آخر».

أثار الرئيس السوري، في القسم الأخير من الاجتماع، مسألة الوضع الإعلامي في لبنان معتبراً أنه «إذا تركتم الإعلام والصحف على حالهما فهذا أمر خطير جداً لأنه يتعلق بجيشنا ومعنوياته وانضباطيته، لذلك لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي لأن أمننا مهدد عن طريق جيشنا الموجود عندكم. إعلام الصنائع يشتمنا منذ سنة فلابد من أن يمدحنا مدة سنتين، لا تستحوا، فلا غضاضة إذا أعلنتم علاقاتكم الخاصة وصداقتكم مع سورية».

مصير حوراني

اجتمعت بعد ظهر اليوم نفسه الى وزير الخارجية السورية عبدالحليم خدّام الذي اعتبر أن الوضع بات جيداً في لبنان وأن المهم الحرص على استبعاد تكرار الكارثة في المنطقة. وانتقد أسلوبنا بالتفكير والعمل قائلاً: «تعالجون الموضوع بروح شهابية على قاعدة التوازن بين بيار الجميل وكمال جنبلاط، وهذه الذهنية باتت قديمة ولا تصح اليوم».

تابع عبدالحليم خدّام بلهجة قاسية تعكس الاستياء السوري الكبير من كمال جنبلاط: «بالنسبة إلى «الجبهة اللبنانية» وبالنسبة إلى المسلمين تمسككم بتمثيل كمال جنبلاط سيجعل من المستحيل أن يقبلوا بالتعاون معكم، جربوا فتروا. لقد كانوا قلقين من أن نفتح له الباب مجدداً فأكدنا لهم أننا لن نفعل ذلك. حاول الرئيس حافظ الأسد طوال سبع ساعات إقناع كمال جنبلاط بوقف القتال لكن هذا الأخير طالب بمدافع وسلاح وذخيرة ليقتل المسيحيين ويستلم الحكم. أهان جنبلاط الرئيس الأسد وحاول قلب الحكم في سورية، لكنه هُزم ويجب أن يُعامل على هذا الأساس، ولن نقبل أبداً أن نحييه. عندنا تجربة مماثلة مع أكرم حوراني الذي كان أنظف من جنبلاط وأكثر وطنية، وانتهى مواطناً عادياً ليس إلا».

بعدما لمست أن لا إمكانية للتفاهم مع المسؤولين السوريين على حكومة من السياسيين لإصرارهم على رفض تمثيل كمال جنبلاط و«المرابطون»، حاولت تمرير فكرة تشكيل حكومة من غير السياسيين تضم تكنوقراط فقط. أتى رد فعل خدام سلبياً أيضاً إذ قال: «يعتقد الرئيس الأسد أن مثل هذه الحكومة لا تقوي الوضع، أما إذا ارتأى الرئيس سركيس باتصالاته أنها أكثر خدمة لمشروعه وأكثر تسهيلاً لمهمته فسوف نتناقش فيها عندئذ، ونتمنى أن يتم الاتصال بنا». وبما يشبه رسالة الدعم إلى الرئيس إلياس سركيس وفريق عمله ختم وزير الخارجية السورية المقابلة بالقول: «نحرص على أن يشعر كل من يقف ضد العهد بأنه سيُسحق مادياً ومعنوياً وسياسياً».

التصلب نهجاً

كانت زيارة دمشق على رغم السلبية التي واجهت تصورنا مفيدة جداً بالنسبة إليّ، خصوصاً على مستوى فهم توجهات القيادة السورية برئاسة حافظ الأسد. وأهم من ذلك ساعدتني الاجتماعات الثلاثة الأولى مع هذه القيادة على فهم شخصيتي الرئيس الأسد والوزير خدّام ومعرفة الأسلوب الذي عليّ انتهاجه لكي أتوصل إلى نتيجة معهما لاحقاً. ذهبت إلى دمشق من غير أحكام مسبقة عنهما. ولفتني في الرئيس السوري أنه ذو شخصية قوية باطنية إلى حد كبير، تعرف ما تريد، وتعبّر عن قسم من أفكارها بطريقة تصعّب النقاش معها. كان يحاول أن يقول كلاماً كأنه يضع حداً فيه للجدل. لذا كان ينبغي على محاوره أن يبقى في استنفار ذهني، وعلى مستوى كبير من سرعة البديهة والجاهزية لكي يتمكن من الرد. ليس من السهل التفاوض معه، ولكني، مع تكرار الاجتماعات، تعوّدت على طريقته، وصرت أعرف كيف يجدر بي أن أتعاطى معه.

أما عبدالحليم خدّام، فوجدته رجل حوار يتمتع بطاقة جدلية، متوقد الذهن، لا تربكه التناقضات حين يريد الدفاع عن وجهة نظر، طلب إليه الرئيس الأسد أن يتبناها. وهو سياسي لبق يحسن المناورة والخروج من المأزق، فإذا حُشر، خرج من مأزقه بكلمة حلوة أو بكلمة غليظة. إذا تعامل مع طرف ضعيف بالغ في التشدد، فأسلوب الدبلوماسية السورية، أسلوب متصلب، بحيث يجب على من يتعاطى معه أن يبقى معه دائماً «على سلاحه».

لم أكن واهماً حيال إمكانية التوصل إلى تفاهم راسخ بين لبنان وسورية، إذ كنت أعرف بصورة إجمالية تاريخ العلاقات اللبنانية-السورية وما هي نظرة السوريين إلى لبنان. وكنت أعرف أن التوفيق بين البلدين ليس من المسائل السهلة. وقد لمست بشكل خاص أنه لا مجال للمقارنة بين نظام البعث الذي كان قائماً في النصف الثاني من الستينيات وذاك الذي أرساه حافظ الأسد. ويمكن القول إن لا مجال للمقارنة بينهما، فالأول كان طري العود وذا طموحات محدودة لا تتخطى عموماً إطار تثبيت دعائم الحكم في سورية. أما نظام البعث في ظل الأسد، فصارت له مشاريع كبرى مترامية الأبعاد، على نطاق عربي ودولي. ولقد وضعت مساء اليوم الذي اجتمعت فيه بالأسد وخدام، خلاصة قدمت فحواها إلى الرئيس إلياس سركيس في اليوم التالي، وقد بدا الاستياء كبيراً على وجهه، ولم يجد ما يقوله سوى «فهمت، ستكون الحكومة غير سياسية».

قتل الناطور

عاشت البلاد، في الربع الأخير من عام 1976، في حلم انتهاء كابوس حرب السنتين التي قتلت عشرات الآلاف ودمرت البلاد وأنهكت أجهزة الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية. كان علينا أن نُشعر الشعب اللبناني بالأمل، وأن نعطي الانطباع بأن البلد تجاوز نهائياً الحقبة المريرة التي عاشها، على رغم أنني شخصياً لم أكن مقتنعاً بأن الأزمة انتهت لأن كل العوامل التي أدت إلى اندلاع الحرب كانت لاتزال جاثمة.

ولم يكن السوريون خلال هذه الفترة يخصون الرئيس الحص بالتقدير معتبرين أنه، في أفضل الأحوال، «مدير مصرف ناجح، وليس رئيس حكومة»، كما قال عبدالحليم خدام في أكثر من مناسبة. أما حينما كان يستاء منه ومن مواقفه المرنة حيال قيادات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فكان ينفي عنه حتى ميزة النجاح في إدارة مصرف.

وقبل أن يتسنى لنا القيام بما قد يخفف من الاستياء السوري من الصحافة اللبنانية الذي عبّر عنه المسؤولون السوريون مراراً، داهمت قوات الردع العربية، منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1976، مكاتب «المحرر»، و«بيروت»، و«الدستور»، و«النهار» و«لوريان لوجور»، وطردت الصحافيين وأساءت معاملة بعضهم، واحتلت المطابع والمكاتب. فتوجهت إلى دمشق لمعالجة هذه المشكلة، في الثاني والعشرين من الشهر عينه، واجتمعت مع نظيري السوري عبدالحليم خدّام بحضور نائب وزير الدفاع اللواء ناجي جميل، ورئيس الأركان حكمت الشهابي. وكان من الطبيعي أن يكون ملف الصحافة على رأس جدول أعمال اللقاء.

حاولت قدر الإمكان طمأنتهم إلى اتجاهنا لضبط الحالة على المستوى الإعلامي. وقلت لهم إن اللبنانيين قلقون من أن تكون مداهمة الصحف مقدمة لتغيير في بنية النظام اللبناني القائم على الحريات. المصلحة تقضي بأن تقوى السلطة في لبنان لا أن تضعف والغاية هي أكل العنب لا قتل الناطور.

عدت إلى بيروت صباح اليوم التالي ووضعت الرئيس سركيس في جو ما قمت به في دمشق والتشدد الذي واجهني خصوصاً في موضوع الصحافة. وأخبرته أنني قلت للمسؤولين هناك إن الرأي العام في الوسط المسيحي يهتم بثلاثة أمور: جمع الأسلحة الثقيلة، والانتشار في الشوف، وتطبيق اتفاق القاهرة ووضع حد لتجاوزات الفلسطينيين، وأنني اتفقت معهم على لقاء بعد أسبوع أي، في التاسع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1976، لمتابعة البحث في موضوع ضبط الإعلام.

في اليوم المحدد، اجتمعت بخدّام وجميل والشهابي الذين رفضوا «من حيث المبدأ» مشروع فرض الرقابة على الصحافة اللبنانية مقابل أن يخلوا مكاتب الصحف التي يحتلونها. وأصروا على سحب رخص بعض الصحف المعارضة لتوجهاتهم، وعلى وضع قانون يسمح لوزير الإعلام بإلغاء الرخصة إدارياً. تميزت هذه الجلسة بالحدة من كلا الفريقين وقد حاولت في نهايتها تهدئة الجو معللاً النفس بإمكانية إقناع الرئيس الأسد نفسه بمشروع الرقابة الذي أعددناه.

اختفاء الأسلحة

قابلت الرئيس الأسد عند المساء وتباحثنا مطوّلاً في المشروع وبدا لي أنه متصلب ومصمم على أن يفهمني ألا جدوى من محاولاتي لإقناعه بما كنا نراه ممكناً في لبنان في ذلك الظرف الخطير. كنا نقدّر حراجة الموقف السوري إسلامياً وعربياً ونعرف ما يتعرض له يومياً من انتقادات في الجوامع في سورية ولبنان وبعض الدوائر الدينية والسياسية العربية.

ورأيت أن ثمة حاجة لتهدئة الأجواء السياسية في لبنان لذلك هناك ضرورات تفترض الرقابة على الصحف موقتاً.

في الواقع، لم أر في حينه طريقة أفضل لوضع حد لتعامل السوريين المباشر مع الصحافة اللبنانية إلا بفرض الرقابة المسبقة على الصحف. في ما كنا، ضمنياً، الرئيس سركيس وأنا، مصممين على أن نكون مرنين إلى أقصى حد مع أهل الصحافة، وعملياً لم نتشدد بعض الشيء إلا في السنة الأولى من العهد، وذلك لتهدئة السوريين وإقناعهم بترك الصحافة اللبنانية وشأنها.

في غضون ذلك، كان الرئيس الياس سركيس والعقيد أحمد الحاج يتابعان تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الاجتماع الأول للجنة الرباعية العربية الذي دعا إليه رئيس الجمهورية في الرابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1976، بناء على مقررات قمتي الرياض والقاهرة. واتفق أعضاء اللجنة الرباعية المجتمعون، في بعبدا، في الثالث والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1976، على وثيقة خطية تقضي «بالمضي في تنفيذ المرحلة التي تقضي بجمع الأسلحة الثقيلة وذخيرتها والعتاد المدرع من كل الأطراف التي اشتركت في النزاع المسلح وكذلك خروج القوات الفلسطينية المسلحة التي دخلت إلى لبنان بعد بدء الأحداث».

عهدت الوثيقة إلى قوات الردع العربية بمهمة الإشراف على التنفيذ الذي يفترض أن يشمل الفلسطينيين واللبنانيين على «اختلاف أحزابهم، ومنظماتهم، وفصائلهم». وأعطى قرار اللجنة «الفرقاء المعنيين» مهلة أقصاها نهاية يوم الأربعاء الموافق التاسع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1976 للتنفيذ ومهلة خمسة عشر يوماً لمغادرة القوات الفلسطينية التي دخلت إلى لبنان بعد بدء الأحداث.

انسحب جيش التحرير الفلسطيني من لبنان بحلول الثالث من كانون الثاني (يناير) من عام 1977، ولكن من غير تجريد القوى اللبنانية والفلسطينية من السلاح. وفي الواقع، اختفت المظاهر المسلحة عن الطرقات لكن الأسلحة توارت في المخازن. فقررت اللجنة الرباعية أن توجه إلى قوات الردع أوامر خطية للقيام بعمليات تفتيش ومداهمة.

علامات الذهول

وتوالت اجتماعات اللجنة الرباعية في بعبدا وبيت الدين، واكتشفت تدريجياً أنها ستكون عقيمة، وكلاماً بكلام. وكان يحضرها وزير خارجية سورية والأمين العام لجامعة الدول العربية وسفيرا السعودية والكويت. وفي أحد الاجتماعات القليلة التي حضرها وزراء الخارجية في اللجنة الرباعية أي الأمير سعود الفيصل والشيخ صباح الأحمد الصباح وعبد الحليم خدّام، وفي ما كنا نعالج موضوعاً شائكاً، بدأ خدّام يأخذ مواقف تصعيدية تحمل في طياتها تهديداً مبطناً. استمعت إليه إلى أن انتهى من استرساله وقلت له، بلهجة حاسمة: «يا أبا جمال، أريد أن أقول لك شيئاً، أنتم عندكم جيش في لبنان، وأنتم أقوياء وأقوى منا وتتقدمون علينا في هذا المجال، وبفضلكم، تمكنا من الإمساك بالوضع اللبناني تقريباً، لكن عندما ينتقل الموضوع من العسكر إلى المسائل التي تتطلب تفكيراً وبعداً، فأنتم لا تتقدمون علينا». فلاحظت بعض الذهول على سحنتي وزيري السعودية والكويت. وقد بلغني في ما بعد أن الأمير سعود الفيصل قال يوماً لصديق مشترك بيننا واصفاً أدائي في تلك الفترة: «لبنان بالأرض وفؤاد بطرس كان يتمرجل علينا».

في تلك الفترة، كانت مسيرة إعادة الأمن والاستقرار تمشي ببطء وكنا نستعجل اللجنة العربية الرباعية لتنفيذ مقررات قمتي القاهرة والرياض التي نصت على تطبيق «اتفاق القاهرة» الموقع بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، قبل أن تتبدد الرياح المواتية لنا في مهمة إعادة بناء الدولة التي أخذناها على عاتقنا. وكان لابد في البداية من إعادة بناء الجيش المشرذم طائفياً والمنهك والفاقد الصدقية في نظر فئة من اللبنانيين.

يتبع