بسام حجار ومشاغله الهادئة
غاب عن عالمنا الشاعر اللبناني بسام حجار وهو في أوج عطائه شعراً وترجمة. إذ أصدر أربعة عشر ديواناً شعرياً، وترجم أعمالاً مهمة في مجالات الفلسفة والعلوم الاجتماعية والرواية، منها مؤلفات لمارتن هايدغر، وإيتالو كالفينو، وإمبرتو إيكو، والطاهر بن جلون.كان الأمر مفاجئاً بالنسبة إليّ حين قرأت أن أعماله المترجمة تفوق ستين عملاً، فأين يجد هذا الإنسان المبدع الوقت لإنجاز كل هذه الترجمات؟ وإلى جوارها الأعمال الشعرية، مع الأخذ في الاعتبار ما يحتاج إليه الشعر من خصوصية من حيث صفاء المزاج، والبُعد التأملي للوجود والأشياء المحيطة من حوله. كان ديوانه الأول «مشاغل رجل هادئ جداً» لافتاً، فهو يجمع بين طياته جميع عناصر الدهشة والمفاجأة من حيث النبرة الهادئة والتفاصيل الصغيرة، وأشياء الغرفة، وممرات المنزل وانحناءات أركانه. يقول حسين بن حمزة: في معرض حديثه عن مجموعة «تفسير الرخام» لبسام حجار: «ما إن يُذكر ويقرأ حتى ترد إلى ذهن القارئ تلك التأويلات الفاخرة والمستمرة لعالم صغير، وادع، موحش، وحميم، يقتصر على أشخاص قليلين، ومتاعهم القليل، أشخاص بعضهم غابوا وظلت مقتنياتهم، وأغراضهم، وذكرياتهم، وروائحهم، في الزوايا والخزائن والأدراج، وبعضهم مازال يواصل حياته بما هو أشبه باستعداد للغياب»، يشكل الغياب محوراً آخر مهماً من محاور شعر حجار، فهو على الرغم من انشغالاته الهادئة جداً من حيث الصياغة والأسلوب، فإن مضمون قصائده أشبه بصرخة قادمة من حفر القبور وخنادق الموت. يقول في «بضعة أشياء»: «قال إنه متعب/ وإنه أصبح في آخر العمر/ فما جدوى أن يبتهج لشيء... قال إنه متعب/ ولا يقوى على السير في الشارع/ فالنفس يُجهده/ كأنه اعتاد على ما يشبه الاختناق/ واكتفى من الهواء بالأقل/ الذي لا يحيي الكناري الذي أماته البرد/ وقال إن الربيع يكاد يقتله/ والصيف باذخ القيظ/ والشتاء قارس ومبتل/ والخريف فصل النواحات الكئيب».
يأتي حجار وبحسب كثير من دارسي القصيدة الحديثة في طليعة الجيل الثاني من رواد قصيدة النثر العربية، إن أخذنا في الاعتبار أن الجيل الأول يضم شعراء كبارا من أمثال أنسي الحاج، ومحمد الماغوط. أشياء كثيرة يمكن أن تقال عنه بعد غيابه، كما ان أسئلة كثيرة يمكن أن تتولد من رحم قصائده. كيف استطاع هذا الشاعر الموسوم بالهدوء حد الانزواء أن يصنع لنفسه مكانة شعرية تفوق كثيراً من شعراء العربية المغرمين بالأضواء، والمهرجانات واللجان الرسمية وغير الرسمية، كيف استطاع صاحب «مهن القسوة» أن يصنع من عالم الغرفة والمنزل خيالاً شعرياً محلقاً لا يعرف الحدود والانطواء.هو مشروع قائم بذاته لترسيخ قصيدة النثر العربية وخلق كيان خاص بها. كانت قصيدة النثر خاضعة للمجاز والتكثيف الفارغ من المضمون، وكذلك الانحرافات الأسلوبية التي لا تخلق أي دهشة، كانت عند كثير من الشعراء مجرد تلاعب لغوي حتى جاء حجار وبث في بعض جوانبها الحياة حين قال: «رجل هادئ/ يرتب أفكاراً هادئة/ في غرفة للمشاغل العادية/ للطعام/ للنوم/ للحب/ للألفة العائلية والخصام العائلي/ للتطريز/ للمحادثة/ للانتحار».