في فيلم «شفيقة القبطية» يدور الحوار الآتي بين هند رستم (الراقصة) وأحد الممثلين: «بتحبي مين دلوقتي يا شفيقة؟».

Ad

قالت شفيقة بسرعة: «بحب الفلوس!». وهمّت بالمشي، فاستوقفها محادثها ثانيةً وقال: «قصدي مين من الرجّالة!».

قالت: أغناهم!

فقال: وتحبيه على طول.

قالت: على قدّ فلوسه!

تذكرت هذا المشهد خلال متابعتي برنامج «هزّي يا نواعم» على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال LBC، الذي يجمع راقصات من بلاد المشرق والمغرب، ومن كل حدب وصوب، ويبدو أنه يسحر مثقفين كثيرين، أو هم يعتبرون الرقص الشرقي كالتنويم المغناطيسي. الراقصة ترقص رقصاً منفرداً وتتحرك بطريقة شجاعة، وبطاقة جسمانية أفعوانية (نسبة الى الأفعى) تواجه المشاهدين والحاضرين.

الرقص في «هزّي يا نواعم» يبدو باهتاً وتلفزيونياً واستعراضياً، ليس فيه شيء من التنويم المغناطيسي، إنه نسخة مشوّهة عن الكباريه. من يتذكر سامية جمال يشعر أن «هزي يا نواعم» بلا روح ويشبه الأغاني السريعة، حتى بدلات الرقص سخيفة.

ثمة من قال إن الراقصة البارعة هي التي تستطيع أن ترقص في متر مربع واحد. ولا ينطبق هذا الشرط إلا على زينات علوي التي سميت بـ «راقصة الهوانم»، فيما قيل عن رقص سامية جمال «رقص الخيول» لأنها تكتسح المسرح من أوله الى آخره... كأنها تطير.

النافل، أن الراقصة تشكّل بما تملك من تجليّات، موروثاً يتراءى حضوره في المناسبات والأفراح والأحياء الشعبية والملاهي والحكايات وروايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ. على أن الراقصات أو بعضهن في فترات ومراحل معينة، تحوّلن الى علب البغاء السري والعلني الذي شاركت فيه فتيات من جنسيات وأعراق مختلفة: يونانيات، إيطاليات، أرمنيات، قبرصيات وفرنسيات. جذبت سوق البغاء السياح من الجوار القريب، وكان تجار «أقدم مهنة في التاريخ» يروّجون للإتجار بأجساد الراقصات، بوصفهنّ علامات إغراء متألق.

وإذا كانت أم كلثوم مدار الطرب والفخامة الغنائية وملهمة الجماهير، والساحرة الطاغية بصوتها المتمادي وسط الفراغ والخواء العريضين، وإذا أصابت فيروز قدراً عالياً من النجومية، فإن للرقص الشرقي نجماته الكبيرات أيضاً.

يقول خليل البنداري، كاتب سيناريو فيلم عن حياة بديعة مصابني (تمثيل نادية لطفي)، إن بديعة اللبنانية بالولادة، كانت تجلس على باب صالتها في شارع عماد الدين واضعة ساق على ساق، والشيشية لا تغادر فمها. في تلك الأيام، وصلت مصابني الى الغاية التي تتمناها كل راقصة ومغنية، هي مدربة الراقصات الشهيرات وحاضنتهن، فكانت حين تذهب الى دور العرض تسعد بالجمهور الذي يستقبل صديقاتها (تلميذاتها)، فيما تجني مئات الجنيهات المصرية في زمانها.

لم تكن مصابني جميلة الصوت ولا راقصة ممتازة، لكنها تمتعت بجاذبية وخفة دم وبرأسمال بسيط ومتواضع، نزلت الى سوق العرض والتمثيل، لكنها لم تبدأ من القاهرة، لأن ملاهيها كانت تغلق أبوابها في وجه الناشئات من الراقصات، ولهذا بدأت في فرق متجوّلة تبحث عن القروش والملاليم في القرى الصعيدية. في أكتوبر (تشرين الأول) 1943، أنشأت «كازينو أوبرا»، وأخذت تعلّم الرقص فيه لبعض الشابات... بديعة التي جنت ثروة في مصر وهربت الى بلاد الشام لم نعد نعرف عنها سوى اسمها في منطقة البقاع في لبنان، نقرأ على جانب الطريقة «بديعة مصانبي للألبان والأجبان».

لم تعد الراقصة المصرية تفكر بفلوس الرجل، بل بالنجاة بنفسها، فعدا عن فتاوى الأصوليات الدينية، ثمة وحوش كاسرة في عالم رجال الأعمال... غنت سوزان تميم ولم ترقص، وهي على ما يبدو كانت تغني مع الذئاب، وما بين السطور نقرأ أن «الأمة» متورّطة في قتلها.