الدولة اليهودية والنقاء الإثني
يبدو أن إسرائيل متجهة إلى صيغة «حلّ» يقوم على تبادل السكان، بين أراض فلسطينية يُصار إلى إجلاء بعض المستوطنين منها وأخرى إسرائيلية يصار إلى إجلاء عرب الداخل عنها.قد لا تكون الصدامات التي شهدتها مدينة عكا في الآونة الأخيرة، بين أبنائها من العرب وبين اليهود من سكانها أو من مستوطنيها الطارئين بعد إجلائهم من قطاع غزة أو من متطرفين وفدوا إليها من أرجاء الدولة العبرية يشدون عضد بني جلدتهم، من طبيعة ما ينشأ اعتياديا، وقد يستفحل، من توتر في بيئات متعددة الأعراق والإثنيات والانتماء الديني، بل ربما كان أمرها أفدح من ذلك، مقدمة لما هو أنكى وإرهاصاً بما هو أبعد غورا في مضمار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
مأتى خطورة، بل خطر ما شهدته وما قد تشهده عكا، وسواها من مواقع التجمع العربي داخل حدود الدولة العبرية، لا يتوقف عند تلك الصدامات العرقية-الدينية في ذاتها، بل يتعداها إلى ما هو أهم، إلى ما هو كفيل بتحويلها من نوبةِ حمى من تعصّبٍ طارئة، ردّ فعل من بعض اليهود أهوج على دخول شاب عربي الحي الشرقي من المدينة بسيارته يوم «عيد الغفران»، إلى نزاع من طبيعة أخرى، معمم ومستدام.ما يجعل الاحتمال ذاك واردا أن الصدامات تلك تجدّ في ظرف سياسي وذهني بعينه، هو المتمثل في انهجاس الإسرائيليين انهجاسا غير مسبوق، من حيث استشعاره من قِبلهم حدّةً وإلحاحاً، بيهودية دولتهم. فهم إذ أضحوا يبتسرون المسألة الفلسطينية في بعدها الديمغرافي، باتوا يرون، وقد تحققت لهم الغلبة العسكرية والسياسية، أن لا خطر يمكن أن يأتيهم من الفلسطينيين غير ذلك السكاني، وقد بوّءوه منزلة «الخطر الوجودي».وفي ذلك ما قد يمثل تطورا أساسيا طرأ على الإيديولوجيا الصهيونية. صحيح أن الإيديولوجيا تلك بُنيت على فكرة إيجاد «وطن قومي لليهود» وأنها نجحت في مسعاها ذاك غير متورعة عن بذل ما يتعين، في نظرها، بذله، من شراء أراض ومن الاستيلاء عليها ومن أعمال قتل وتهجير ارتُكبت على نطاق واسع يمكن قياس هوله بالنظر إلى أحوال اللاجئين الفلسطينيين من حيث أعدادهم ومواقع تشتتهم وما يكابدونه من معاناة، لكن الإيديولوجيا الصهيونية لم تكن تعبأ في طورها التأسيسي ذاك بيهودية للدولة أكثر من تلك المتمثلة في بلوغ الغلبة والأرجحية، أغلبيةً عددية وانفرادا بمقدرات الدولة الناشئة واستئثارا بالنفوذ على الأرض المغتصبة، وهو استبعاد شمل حتى اليهود الشرقيين الوافدين من العالم الإسلامي، عوملوا معاملة تداني العنصرية أو تضاهيها. أي أن مفهوم «الدولة اليهودية» كان مفهوما سياسيا في المقام الأول، يعرّف، وإن على نحو ضمني، تلك الدولة بكونها الدولة التي يحكمها اليهود، أي أنها تلك الدولة التي تكون الغلبة فيها مطلقة لـ«العنصر» اليهودي، دون أن تكون، من حيث التركيبة السكانية، يهودية حصرا وبالضرورة. من الأدلة على ذلك أن عربا استمروا في العيش داخل «حدود» الدولة العبرية، صير إلى تهميشهم، ولكن لم يُصر إلى تهجيرهم لأسباب لا تتعلق فقط بتشبثهم بأرض أجدادهم، بل أُسبغت عليهم صفة المواطنة، وتمتعوا ببعض مظاهر التمثيل السياسي، من خلال نواب لهم في الكنيست، وإن كانت تلك المواطنة من درجة ثانية، وذلك التمثيل السياسي محدود التأثير.يبدو أن الطور ذاك آيل إلى زوال قد يكون وشيكا، لأن مفهوم «الدولة اليهودية» في الإيديولوجيا الصهيونية بصدد التحول والانزلاق نحو صيغة له تقوم على اعتماد «النقاء الإثني»، أي إلى الانتقال من دولة أنشأها ويحكمها اليهود، وفق ما سبقت الإشارة، إلى دولة مواطنوها من اليهود حصرا. قد لا يكون التخوف من تكاثر الفلسطينيين هو الدافع الوحيد، بل عوامل أخرى كثيرة، ذاتية في الأغلب، من قبيل الإمعان في الانغلاق، واستحكام الفهم الأصولي لـ«يهودية الدولة» حتى في أوساط النخب العلمانية التي تحسب نفسها علمانية. وأنكى ما في الأمر أن التوجه ذاك أضحى سائدا، توجها مجتمعيّا.ليس مهما، والحالة هذه، الخوض في ما إذا كانت صدامات عكا الأخيرة بين العرب واليهود قد جدّت، في هذا الشأن العيني والموضِعي بالذات، إنفاذا لخطة وُضعت وأُقرت، على ما تجزم أوساط عربية، بل الأهم أن حصولها تنزّل في تلك البيئة الذهنية-السياسية التي سبقت الإشارة إليها، وأنها على الأرجح، وتبعاً لذلك، لن تكون بلا غدٍ، أي أن ذلك الاعتبار سيسبغ على إمكان تكرارها في عكا وفي سواها من مواقع عيش العرب داخل الدولة العبرية، سمة الحتمية، توقا واعيا أو غير واع إلى تهجيرهم.إذ يبدو أن إسرائيل متجهة إلى صيغة «حلّ» يقوم على تبادل السكان، بين أراض فلسطينية يُصار إلى إجلاء بعض المستوطنين منها وأخرى إسرائيلية يصار إلى إجلاء عرب الداخل عنها... صيغةً تستبدل اقتسام الأرض، على أساس كل مسعى تسووي حتى الآن، باقتسام السكان، على نحو غير متكافئ بطبيعة الحال، طالما أنها تستبعد استبعاداً تاما قيام دولة فلسطينية مستقلة ناجزة السيادة.* كاتب تونسي