أوكرانيا وروسيا والاستقرار الأوروبي

نشر في 03-09-2008
آخر تحديث 03-09-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي بدا الأمر وكأن قواعد جديدة قد تأسست فيما يتصل بإدارة العلاقات الدولية في وسط أوروبا وشرقها ووسط آسيا. وكانت الشعارات التي سادت آنذاك هي الاستقلال والاعتماد المتبادل؛ والسيادة والمسؤولية المتبادلة؛ والتعاون والمصالح المشتركة. وكلها عبارات طيبة تحتاج إلى مَن يدافع عنها.

ولكن أزمة جورجيا جاءت لتوقظنا بخشونة وتنبهنا إلى الواقع. إن مشهد الدبابات الروسية وهي تسير على أرض دولة مجاورة لروسيا، بعد مرور أربعين عاماً منذ الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا، كان بمنزلة الدليل على أن إغراءات سياسات القوة مازالت باقية. وعادت الآلام والانقسامات القديمة لتقض مضاجعنا من جديد. ومازالت روسيا غير راضية عن خريطة أوروبا الجديدة. ولم تكن محاولة روسيا لإعادة رسم هذه الخريطة من جانب واحد، بالاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، بمنزلة الإعلان عن نهاية فترة ما بعد الحرب الباردة فحسب، بل إنها أيضاً تشكل اللحظة التي باتت فيها الدول مطالبة بتحديد مواقفها في ما يتصل بالقضايا المهمة المرتبطة بسيادة الدول والقانون الدولي.

يقول الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف إنه لا يخشى نشوب حرب باردة جديدة. إلا أننا لا نريد حرباً باردة جديدة، ويتعين عليه أن يتحمل مسؤوليته في عدم التسبب في اندلاعها.

تشكل أوكرانيا نموذجاً مثالياً للفوائد المترتبة على تولي الدول لمصائرها وسعيها إلى التحالف مع دول أخرى. وينبغي ألا يُـنظَر إلى اختياراتها باعتبارها تهديداً لروسيا، بل إن استقلالها يتطلب تبني نوع جديد من العلاقات مع روسيا ـ العلاقة بين ندين وليس علاقة السيد والخادم.

ويتعين على روسيا ألا تخرج من أزمة جورجيا بالدرس الخطأ: إذ لم يعد التراجع عن المبادئ الجوهرية التي تحكم سيادة الدول على أراضيها، والحكم الديمقراطي والقانون الدولي بالأمر الوارد على الإطلاق. لقد أثبتت روسيا قدرتها على إلحاق الهزيمة بالجيش الجورجي. إلا أن روسيا اليوم باتت أكثر انعزالاً وأقل جدارة بالثقة والاحترام مما كانت عليه قبل شهر واحد. ورغم ما حققته من مكاسب عسكرية قصيرة الأمد، فإنها سوف تشعر مع الوقت بالخسائر التي ستتحملها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. وإذا كانت روسيا راغبة حقاً في الفوز باحترام العالم وترسيخ نفوذها الدولي، فيتعين عليها أن تغير مسارها.

وصف رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه «الكارثة الجغرافية السياسية الأعظم» في القرن العشرين. بيد أن أغلب شعوب الكتلة السوفييتية السابقة لا ترى الأمر على هذا النحو. ولسوف تكون مأساة بالنسبة لروسيا أن تمضي العشرين عاماً المقبلة وهي تنظر إلى الأمر على هذا النحو.

منذ عام 1991 عرض الغرب على روسيا علاقة التعاون المكثف مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي (الناتو)؛ فضلاً عن عضوية المجلس الأوروبي ومجموعة الدول الثماني. وتم تنظيم لقاءات القمة والاجتماعات وتأسيس الآليات الجديدة، ليس لإذلال أو تهديد روسيا، بل لإشراكها في الأمر. كما لم يبخل الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة بأي شكل من أشكال الدعم للاقتصاد الروسي حين كانت روسيا في حاجة إلى ذلك الدعم، واستثمرت الشركات الغربية أرصدة ضخمة في روسيا، كما استفادت روسيا إلى حد كبير من عودتها إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي.

بيد أن روسيا في الآونة الأخيرة بدأت تقابل جهودنا بالازدراء، فعلقت شراكتها في معاهدة القوات المسلحة التقليدية، وتحرشت برجال الأعمال وشنت الهجمات على المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت للبلدان المجاورة لها. والآن رأينا جميعاً ما حدث في جورجيا.

إنه لأمر طبيعي أن تكون لروسيا مصالح في البلدان المجاورة لها، ولكن يتعين عليها أولاً أن تكتسب مثل هذا النوع من النفوذ. والحقيقة أن هذه البلدان لا تشكل «مساحة خواء في مرحلة ما بعد السوفييتية» كما أشار بوتين. بل لقد خلق انهيار الاتحاد السوفييتي واقعاً جديداً- فنشأت بلدان مستقلة ذات سيادة على أراضيها، ولها حقوقها ومصالحها.

يتعين على روسيا أيضاً أن تحدد موقفها فيما يتصل باستخدام القوة لحل النزاعات. يزعم بعض الناس أن روسيا لم تفعل شيئاً لم يسبق لحلف «الناتو» أن فعل مثله في كوسوفو في عام 1999. بيد أن هذه المقارنة لا تقوم على أساس جاد من الفحص والتدقيق.

جاءت عمليات «الناتو» في كوسوفو في أعقاب انتهاكات جسيمة ومنظمة لحقوق الإنسان، بلغت ذروتها في تنفيذ حملة تطهير عرقي على نطاق لم يسبق له مثيل في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ولم يتحرك «الناتو» إلا بعد مفاوضات مكثفة تحت إشراف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فضلاً عن الجهود الحثيثة التي بذلت في إطار محادثات السلام. هذا إلى جانب المبعوثين الذين أرسلوا لتحذير الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش من العواقب الوخيمة التي ستترتب على تصرفاته.

بيد أن ما سبق كله لا ينطبق على استخدام روسيا للقوة في جورجيا.

وعلى نحو مماثل، لم يتم التوصل إلى قرار الاعتراف باستقلال كوسوفو إلا بعد أن أوضحت روسيا أنها سوف تستخدم حق النقض ضد الاتفاق المقترح من جانب مبعوث مجلس الأمن الخاص، الرئيس الفنلندي الأسبق مارتي أهتيساري. وحتى بعد ذلك اتفقنا على أربعة أشهر أخرى من المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا لضمان خضوع المسألة للدراسة الوافية من الجوانب كافة سعياً إلى البحث عن تسوية مقبولة من الأطراف كلها.

وفي المقابل، تحولت روسيا، فيما يتصل بالمسألة الجورجية، من دعمها لسيادة جورجيا على أراضيها إلى تفكيك البلاد في غضون ثلاثة أسابيع والاعتماد التام في ذلك على القوة العسكرية.

لقد بات لزاماً على روسيا الآن أن تسأل نفسها عن العلاقة بين الانتصارات العسكرية قصيرة الأمد والازدهار الاقتصادي بعيد الأمد. فقد أعقب الصراع في جورجيا انحداراً حاداً في ثقة المستثمرين. كما هبطت الاحتياطيات الروسية من النقد الأجنبي حوالي 16 مليار دولار أميركي في غضون أسبوع واحد، وهبطت قيمة «غازبروم» بالقدر نفسه في غضون يوم واحد. وارتفعت علاوة المخاطرة في روسيا حتى بلغت عنان السماء.

إن عزل روسيا سوف يكون تصرفاً هدَّاماً، وذلك لأن دمجها في الاقتصاد الدولي يشكل الوسيلة الأفضل لتهذيب سياساتها. فضلاً عن ذلك فإن عزلها لن يؤدي إلا إلى إضعاف الجهود العالمية الرامية إلى التعامل مع قضية انتشار الأسلحة النووية، ومخاطبة مسألة تغير المناخ، وترسيخ الاستقرار في أفغانستان على سبيل المثال.

بيد أن المجتمع الدولي ليس بالمؤسسة العاجزة. فالأوروبيون يحتاجون إلى الغاز الروسي، ولكن «غازبروم» تحتاج إلى الأسواق والاستثمارات الأوروبية. يتعين علينا أن نعمل على إشراك روسيا بذكاء. وهذا يعني دعم الحلفاء، وإعادة التوازن إلى علاقاتنا بروسيا في مجال الطاقة، والدفاع عن القواعد التي تحكم عمل المؤسسات الدولية، وإحياء الجهود الرامية إلى حل النزاعات المعلقة، ليس فقط في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، بل وأيضاً في ترانسنستريا وناغورنو كاراباخ. فكل من هذه النزاعات ترجع جذوره إلى التوترات العرقية التي تفاقمت بسبب التأخر الاقتصادي والسياسي.

وهنا تشكل أوكرانيا، التي تضم بين سكانها ثمانية ملايين نسمة من أصول عرقية روسية- أغلبهم في كريميا- نموذجاً واضحاً. إذ إن ارتباطها القوي بروسيا يصب بوضوح في مصلحة كل من البلدين. ولكن أوكرانيا بلد أوروبي أيضاً، وهو ما يعطيها الحق في طلب الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي- وهو الطموح الذي عبر عنه زعماء أوكرانيا. والحقيقة أن توقعات الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي كانت بمنزلة القوة الدافعة نحو الاستقرار والازدهار والديمقراطية في أنحاء أوروبا الشرقية المختلفة. وبمجرد نجاح أوكرانيا في الوفاء بالمعايير التي حددها الاتحاد الأوروبي فلابد من قبولها كعضو كامل العضوية.

بالإضافة إلى ما سبق فإن العلاقة بين أوكرانيا و»الناتو» لا تشكل تهديداً بالنسبة لروسيا. ولا شك أن دعم استقلال أوكرانيا ومؤسساتها الديمقراطية يصب في مصلحة روسيا في الأمد البعيد.

يتعين على أوروبا أيضاً أن تعيد التوازن إلى علاقتها مع روسيا في مجال الطاقة، وذلك بالاستثمار في مرافق تخزين الغاز لمواجهة احتمالات انقطاع الإمدادات، وتنويع مصادر الإمداد، فضلاً عن إنشاء سوق داخلية تتسم بالكفاءة وتتمتع بقدر أعظم من الارتباط بين الدول الأعضاء. يتعين علينا أيضاً أن نخفف من اعتمادنا على الغاز، وذلك بتعظيم كفاءة الطاقة وترشيد استهلاكها، وبالاستثمار في تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه ومصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية.

كما يتعين علينا أن نراجع علاقاتنا مع روسيا في المؤسسات الدولية كافة. ولا أريد هنا الاعتذار لرفضي الاقتراح الخطير بطرد روسيا من مجموعة الثماني، أو قطع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، أو بين «الناتو» وروسيا. ولكن ينبغي علينا أن نعيد فحص طبيعة وعمق وعرض علاقاتنا بروسيا. ولا يسعنا إلا أن نحترم التزاماتنا إزاء البلدان الأعضاء الحالية في «الناتو»، بينما نسعى إلى تجديد عزمنا وتصميمنا على عدم حصول روسيا على حق الاعتراض على القرارات التي سيتخذها «الناتو» في المستقبل.

إن الاختيار واضح أمامنا اليوم. فلا أحد يريد حرباً باردة جديدة، ولكن يتعين علينا أن نتحلى ببصيرة واضحة في نظرتنا إلى الأسس التي يقوم عليها السلام الدائم.

* ديفيد ميليباند، وزير خارجية بريطانيا

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top