أحلى من السكر
عندما ضجت القاعة بالتصفيق، علت الدهشة وجوه البعض، وعندما امتد التصفيق لدقائق عدة، اشتد الالتباس على ذلك «البعض»، لا المكان في مكانه، ولا هو قاعة انتخابات ولا مؤتمرات ولا صالة مهرجانات سينمائية، ولا الزمان يبدو أقل غرابة، ولا حكم «بالبراءة» ولا عدالة مفاجئة، فعلام الفرح كله؟أحد ذلك البعض، صحافي غربي لطيف حضر لتغطية وقائع المحاكمة، ببراءة، سأل فيما إذا كان التصفيق تعبيرا عن السعادة بحكم «مخفف»، على اثني عشر ناشطا ومثقفا من إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، يقصد حكما بالسجن سنتين ونصف، ثلاثين شهرا، قرابة ألف يوم منزوعة الحرية.
وقد يبدو تفسيره منطقيا باعتباره من ذلك البعض. أعداد كبيرة سبق أن قضت عدة آلاف من الأيام منزوعة الحرية، مقارنة مع ذلك، لا قيمة لألف يوم من الحياة، بساعاتها وزخمها وذكرياتها، وأي ثمن ضئيل يدفع لقاء التسبب بحالة اكتئاب لمئات الملايين من أبناء الأمة، وإهانة الإحساسات القومية المرهفة، وإغضاب ناصر في قبره! وبعد احتراف الكذب ونشره أخبارا ملفقة عن الحرية والديمقراطية والتعددية. لكن سورياً نزقاً، غضب لتحليل الصحافي اللطيف، وعنفه بشدة، شارحا له الفرق بين يوم وألف يوم، وعدة آلاف من الأيام: لا فرق بينها، قال، حين تسلب من أصحابها عنوة. وحين يكون العقاب على ممارسة حقي بأن أسمع صوتي، أن أستخدم مفردة «لا»، وأن يكون لدي حلم، ولعلك سمعت هذه العبارة من قبل. كان بعض الأميركيين السود الطاعنين بالسن يرددونها أخيرا، أثناء المؤتمرات الانتخابية للديمقراطيين. رأيت بعضهم يغصون بالبكاء، غير مصدقين أن الأحلام قد تنقلب حقيقة. وأن للمرء أن يتصالح مع عذابات ماضيه، حين يبدأ بتلمس العدالة، قريبا جدا من أصابعه. والتصفيق، كان احتجاجا قبل كل شيء... لكل طريقته في الاحتجاج! كنا نعبر عن رفضنا لقضاء لا يرف له جفن وهو يسخَر سلطته لسلب الحرية وإحقاق اللاعدالة. وكنا نقول إن دوي التصفيق سيبقى طويلا ليقض مضاجع السلطة القضائية، وإن كانت الكلمات والصفحات والأوراق كلها لم تقرأ، فلعل الصوت يُسمع، وأننا لسنا «الشعب» الذي صدر الحكم باسمه، أو أن الحكم لم يصدر باسمنا كأفراد من هذا الشعب. هناك تشابه أسماء يحتاج إلى تصحيح، فيما يبدو! كل حكم مشابه يحتاج إلى تصفيق مشابه، حتى لا يعتقد مصدروه ومن ورا ءهم ولو للحظة، أن صمتا ما يضفي شرعية ما على حيثياته. والتصفيق كان محبة خالصة، لمن حكموا بانتزاع الألف يوم من حيواتهم، ومنهم من سبق وخسر آلاف الأيام في سنوات مضت، ومنا من يعتبرهم شجعانا، أساؤوا التقدير بارتكاب الكلمة واقتراف الحلم، ومنا من يقدرهم، ولا يجرؤ على التفكير في الكون مكانهم، ومنا من يرى نفسه معهم بعد حين، فيصفق لنفسه مشجعا! كان محبة خالصة لهم، وقد شاركونا التصفيق بابتسامة المنتصر الواثق من حلمه. والتصفيق كان انحناءة تقدير لعائلاتهم، التي تحمل جزءا عسيرا من السجن عن أحبتها، وتعيشه بأشكال وظروف مختلفة، والتي لولا إيمانها وثقتها بهم، لكانت اللحظة أثقل وأمرَ. كان التصفيق «للمساواة» التي حققها حكم الألف يوم... لا فرق بين قيادي في الإعلان وعضو مجلس وطني، ولا فرق بين سقف مرتفع وآخر منخفض، ولا فرق بين حوار أو إصلاح أو تغيير، فكله يندرج تحت المحظور، وليس محتوى الكلمة هو الممنوع، الكلمة ذاتها هي الممنوعة. لا تمييز على أساس الجندر (المساواة بين الجنسين)، فالسيدة فداء تساوت في الحكم مع زملائها من السادة المعتقلين، ولا تمييز من أي نوع كان، لأن المساواة منصوص عليها في الدستور! والتصفيق أخيرا، كان لحظة فرح قد يبدو في غير محله، لحظة تنبثق منها آلام عقود عدة من الزمن، بما تحتويه من آلاف الأيام المنزوعة الحرية، لآلاف الأشخاص، لتُضاف إلى الراهن، ولتظهر على الرغم من ذلك كله، حلاوة الإيمان، ولتعبر عن دهشة متجددة، بالقدرة على الاستمرار، وبالقدرة على حب الحياة وعيشها، على الرغم من ثمن ظالم يقدر بألف يوم، لقاء حياة يفترض أن تكون ملكنا. صحيح، رد الصحافي اللطيف بابتسامة حالمة، حلوة الحياة كما نرغب أن نعيشها، أحلى من السكر. * كاتبة سورية