مدرسة السلطان حسن بميدان القلعة، هي الدليل الأبرز على نجاح المعماريين المسلمين في إدراك أسرار الجمال والخلود المعماري معا . وإذا كان قدماء المصريين قد أهدوا للعالم إحدى عجائب الدنيا السبع مجسدة في الهرم الأكبر، فإن دولة المماليك أنجزت هذه المدرسة التي توصف بأنها هرم العمارة الإسلامية .

Ad

شيد هذه المدرسة السلطان الملك الناصر حسن بن الناصر قلاوون، وشرع في تشييدها عام 757 هـ "1356 م ” وقتل في عام 762 هـ "1361م” قبل أن تستكمل أعمال الزخرفة بها، وطوال السنوات الخمس التي استغرقها البناء ظل السلطان ينفق بسخاء على عمارتها، ونسب إليه أنه قال” لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع لكثرة ما صرف عليه ”.

وكان مقدرا لهذه المدرسة أن تضم أربع مآذن، وأتم السلطان في حياته ثلاثا، اثنتان منها تكتنفان القبة الضريحية بالواجهة الشرقية، والثالثة كانت فوق الكتف الأيمن للمدخل الرئيسي، ولكن هذه المئذنة الأخيرة سقطت يوم السبت 6 ربيع الآخر سنة 762 هـ "1361 م ”، فأبطل السلطان حسن بناء المئذنة الرابعة التي كان من المقرر تشييدها فوق الكتف الأيسر للمدخل الرئيسي، واكتفى بالمئذنتين الباقيتين إلى اليوم .

ولعبت المئذنتان دورا مهما في العديد من الصراعات التي دارت بين المماليك، فنظرا لوقوع مدرسة السلطان حسن أمام مقر الحكم في قلعة الجبل، دأب المتمردون ضد السلطان على أن يتخذوا من المدرسة حصنا لهم، يدافعون به عن أنفسهم، بل وكقلعة هجومية في مواجهة قلعة الجبل ومماليك السلطان المتحصنين بها، وما إن ينشب الصراع حتى يصعد بعض الأمراء وغيرهم إلى أعالي المئذنتين المطلتين على القلعة، وينصبون المدافع فوقهما، ويطلقون القذائف منهما على القلعة، وقد وقعت مثل هذه الأحداث غير مرة في عصر دولة المماليك الجراكسة أو إبان العصر العثماني .. ففي سنة 791 هـ "1389 م ” نصبت مكحلة " مدفع ” أعلى المئذنة رمي بها على باب السلسلة أحد أبواب القلعة، فهرب المماليك المدافعون عن هذا الباب .

ولما تكررت هذه الحوادث أمر السلطان الظاهر برقوق في 8 صفر سنة 793 هـ "1391 م” بهدم السلم الموصل إلى سطح المدرسة، وسد ما وراء الباب النحاسي الكبير مع فتح شباك من شبابيك المدرسة يوصل إلى داخلها .

وفي شهر رمضان سنة 825 هـ "1422 م ” سمح بالأذان في المئذنتين بعد طول انقطاع، وأعيد درج الباب الرئيسي، وركب له باب عوضا عن القديم الذي حمله الملك المؤيد شيخ ليوضع في مسجده الملاصق لباب زويلة .

ولما عاد أمراء المماليك إلى مهاجمة القلعة من مدرسة السلطان حسن أمر السلطان أبو سعيد جقمق في سنة 812 هـ "1438 م ” بهدم السلالم الموصلة إلى المئذنتين، نتيجة لتوالي القصف المدفعي المتبادل بين القلعة ومئذنتي المدرسة، وعهد السلطان أبو النصر قايتباي في سنة 858 هـ "1454 م ” إلى بعض المهندسين بفحص المنارة الجنوبية خوفا من حدوث خلل بها، وبفحص المئذنة تبين لهم سلامتها .

وأثبتت المآذن جدارتها المعمارية مجددًا في عام 902 هـ، عندما تمرد الأمير أقبردي على السلطان، وحاصر القلعة ثم ضربها من أعلى مآذن مدرسة السلطان حسن بمكحلة " مدفع ” أصاب أول حجر منه باب السلسلة، فرد مماليك السلطان على الاعتداء بمثله، وهاجموا المدرسة بالمدفعية واجتاحوا ونهبوا ما بها من بسط وقناديل ورخام، واضطر الأمير طومانباي الداودار في العام التالي إلى إصلاح ما تخرب من جدران المدرسة، وأقيمت الخطبة بها بعد أن كانت معطلة نحو عشرة أشهر، ولكن المئذنتين بقيتا دون حاجة لإصلاح أو ترميم .

والمئذنتان متماثلتان مع اختلاف طفيف بينهما في الارتفاع، فلكل مئذنة قاعدة مربعة تذكرنا بالصوامع الأموية المبكرة، وتنتهي القاعدة من أعلاها بشطفات مائلة على هيئة مثلث قاعدته لأعلى، وهذه الشطفات الأربع حولت المربع إلى مثمن ينطلق منه الطابق الثاني المثمن الأضلاع، وازدانت أوجه هذه الدورة بأشكال حنيات معقودة، وينتهي هذا البدن المثمن بصفوف من المقرنصات الحجرية الدقيقة الصنع تحمل شرفة الأذان الأولى . وبعد ذلك يأتي طابق ثالث له ذات الهيئة المثمنة، ولكنه أقل ارتفاعا من سابقه، وهو ينتهي أيضا بصفوف من المقرنصات تحمل شرفة الأذان الثانية، وأخيرا يأتي الجوسق الذي اتخذ هيئة دائرية تحمل ثمانية أعمدة صغيرة تنتهي بعقود من فوقها قبة صغيرة تعرف في مصطلح العمارة المملوكية باسم القلة، ويتجاوز ارتفاع المئذنة ١٨ مترا .

ولو اكتمل تصميم المدرسة بإنشاء المئذنتين الباقيتين على جانبي المدخل الشمالي الرئيسي، لاكتملت صورة المدرسة كصرح معماري مهيب، تماما مثلما أراد لها السلطان حسن أن تكون، وكما خطط لذلك مهندسها محمد بن بيليك المحسني، وكانت الحيرة قد استبدت بالعلماء الذين كتبوا عن هذه المدرسة بشأن مهندسها، فها هو الفرنسي " جاستون فييت ” يقول إن جامع السلطان حسن عمل عظيم خالد ولكن شخصية الفنان العبقري الذي ابتدعه يكتنفها الظلام .. ولكن الأثري حسن عبدالوهاب اكتشف في عام 1944 اسم المهندس الذي أشرف على بناء المدرسة مسجلا ضمن كتابات المدرسة الحنفية، وهو محمد بن بيليك المحسني سليل أسرة اشتهرت بأعمال البناء خلال العصر المملوكي .

ومن المعروف أن مدرسة السلطان حسن كانت مخصصة لتدريس المذاهب الأربعة، وكانت تضم مساكن من عدة طوابق لإقامة المدرسين والطلاب وكان هؤلاء يتقاضون رواتب شهرية، وهي تضم بداخلها أربع مدارس منفصلة وزعت حول الإيوانات الأربعة الرئيسية، والتي يتوسطها صحن مكشوف به فسقية مغطاة بقبة وتبلغ المساحة الإجمالية للمدرسة حوالي 7906 أمتار مربعة، وهي حافلة بشتى أنواع النقوش والزخارف التي نفذت في الحجر والرخام والجص .

وامتدت الأيدي إلى بعض مكوناتها، فحمل بابها الذي كان يغلق على المدخل الرئيسي، ليوضع في جامع المؤيد شيخ، وعوض السلطان المدرسة بأوقاف لبعض الأراضي الزراعية في ناحية قها، ونظرا لأن الأبواب الداخلية للمدرسة كانت مرصعة بالذهب والفضة، فقد تعرض بعضها للسرقة، ومن بينها باب على مدخل السفارة الفرنسية بالجيزة .

لا ثاني له :

وقد أثارت مدرسة السلطان حسن إعجاب زوار القاهرة من الرحالة العرب والأجانب، فيقول الورثيلاني الرحالة المغربي الذي زار مصر في القرن الثامن عشر، إنه مسجد لا ثاني له في مصر ولا في غيرها من البلاد، في فخامة البناء ونباهته وارتفاعه وإحكامه واتساع حناياه وسعة أبوابه كأنه جبال منحوتة، تصفق الرياح في أيام الشتاء أبوابه كما تفعل في شواهق الجبال، وفي أحد أبوابه سارية رخامية لطيفة يقال إنها من إيوان كسرى وفيها نقوش عجيبة . وسجل فييت وصفا مسهبا لهذه المدرسة، ومما قاله فيها : " وقد يكون في وصف الجامع وصفا مسهبا ما يدعو إلى السآمة والملل، بالرغم من أن الجزئيات تشترك في إبراز الكليات، ولكن هذا الأثر بحاجة إلى قلم بليغ وأسلوب شاعري حتى يمكن إبراز دقائقه وجزئياته، والفنان في هذا الجامع لم يوجه همه إلى الزخرفة كعامل جوهري في العمارة، بل اقتصد فيها وسيطر عليها وأخضعها للكل فأدت أغراضها . وقد يكون هذا الجامع هو الوحيد بين جوامع القاهرة الذي يجمع بين قوة البناء وعظمته ودقة الزخرفة وجمالها، وأثره قوي في نفوسنا إذ له خصائصه التي لا يشترك معه فيها غيره .. إن جامع السلطان حسن هو العمل العظيم في الإسلام الذي روعي في تشييده متانة البناء، فهو كالمعابد القديمة يتحدى الزمن وينطبق عليه ما تخيله الشاعر العربي، من أن الزمن هو الذي يقاوم قوة هذه المباني الضخمة، ولا ريب في أن هذا البناء العالي والعظيم القيمة، رمز لمجد الإسلام وقوته وعظمته .