اللعبة الشعبية الأولى!
ثمة احتمالات، تبدو مرجحة، أن يكون البرلمان الحالي ساحة لـ«التأزيم» أيضاً، وأنه سيتحول ميداناً للتصارع والنكايات والمكائد ونصب الأفخاخ، لا ميداناً للتشريع والرقابة والمساءلة بالشكل الإيجابي الذي يحسن أحوال البلاد والعباد.
يحلو للبعض، عن حسد أو تشفٍّ أو ربما استظراف، وصف الديمقراطية الكويتية بأنها «اللعبة الشعبية الأولى» في البلاد، متكئاً في ما يذهب إليه على ما يعتبره «إدماناً للمساجلات غير المجدية»، و«تمجيداً للقبيلة والطائفة ووضعهما فوق كل اعتبار»، و«لفظاً للمرأة كمرشحة أو وزيرة مهما تحلت بالكفاءة والوطنية»، و«تراجعاً في قضايا التنمية والخدمات والعمل الوطني عموماً، رغم علو الصوت وصراعات الديكة»، وأخيراً «الضجيج الصاخب من دون أي طحين».ويرى هؤلاء أن الديمقراطية الكويتية تحولت من وسيلة لإسعاد الناس إلى غاية في حد ذاتها، لكنها أيضاً لم تقف عند هذا الحد؛ فباتت وفق ما يعتقدون، «لعبة لا يهم العائد منها، ولا يهم ثمنها أو تكلفة تشغيلها، بقدر أهمية التسلية والمتعة المتولدة عن الالتهاء بها».والواقع أن هذا الكلام لا شك محبط ومخيب للآمال، كما أنه يحط من جهد وعمل وتضحيات رجال ونساء في هذه البلاد، استخدموا الآليات الديمقراطية المتاحة، وعلى رأسها الانتخابات، في محاولات صادقة دائبة لخدمة الوطن وصيانة أمنه ومقدراته وتحسين حظوظ أجياله المقبلة.لكن هذا الكلام أيضاً لا يخلو من فائدة. وربما تلك الفائدة تظهر عندما نمعن النظر محاولين استقصاء الأسباب التي أنتجت هذه التصورات والرؤى عن العملية السياسية في البلاد. وقد يكون هذا الأسلوب طريقاً لدحض هذه الاتهامات من جهة، وربما وسيلة أيضاً لتطوير الحياة السياسية بشكل يصعب معه وصفها، من أي كان، بأنها مجرد «لعبة شعبية» من جهة أخرى.هل الانتخابات الفرعية وراء هذا التصور؟ ربما يكون هذا صحيحاً؛ فـ«الفرعيات» ليست سوى برهان على عدم تقبل الممارسة السياسية وعدم الإيمان بالديمقراطية، كما أنها دليل على تجذر التقليدية ورفض الحداثة بتجلياتها كلها وعلى رأسها الديمقراطية المؤطرة بانتخابات تقوم على التنافس السياسي لا العرقي أو الديني والإثني.هل الإعراض عن قبول المرأة كشريك كامل الأهلية في العمل الوطني هو السبب؟ ربما، فإنه من العسير فعلاً أن تعتقد أن شعباً يؤمن بالديمقراطية يمكن أن يناقش اليوم حق المرأة في الوصول إلى الوزارة والبرلمان فضلاً عن الترشح للانتخابات والإدلاء بصوتها.حسناً، لقد انتهت الانتخابات بنجاحاتها واعتواراتها، ولاحت بوادر «التأزيم» فور صدور الأمر السامي بالتكليف لتشكيل الوزارة، وراح نواب، لم يدلوا بالقسم بعد يعدون لاستجوابات (...). فهل يمكن أن يكون هذا هو السبب؟ لا شك أن هذا قد يكون من ضمن الأسباب. فلم تهدأ حدة المعارك الناجمة عن المنافسة الانتخابية لساعات، وفور إعلان النتائج، راحت علامات «التأزيم» وبوادره تتواتر. تقول الصحف: «اعتذارات عن قبول التوزير»، و«تهديدات مبطنة لرئيس الوزراء المكلف للتأثير في اختياراته للوزراء»، و«تلويح واضح بتكتل سلفي، قوامه 22 نائباً، سيتمترس في مواجهة الحكومة».إذن، فثمة احتمالات، تبدو مرجحة، أن يكون البرلمان الحالي ساحة لـ«التأزيم» أيضاً، وأنه سيتحول ميداناً للتصارع والنكايات والمكائد ونصب الأفخاخ، لا ميداناً للتشريع والرقابة والمساءلة بالشكل الإيجابي الذي يحسن أحوال البلاد والعباد.لم تخرج ديمقراطية الكويت من رحم معاناة، ولم تسل على جوانبها الدماء، ولم تؤخذ بقدر ما تم منحها، ثم إنها ترافقت، بالمصادفة التاريخية والجغرافية، مع نفحات الثراء النفطي، وسارت جنباً إلى جنب مع الرفاهية، والعائدات الضخمة، وقصور التنمية، وتكرس التقليدية بمفاهيمها المغلوطة دينياً واجتماعياً.الديمقراطية الكويتية أيضاً ذات خصوصية ما؛ فالأفق منسد أمام التطور الطبيعي لنشاطها مقارنة بالدول المتقدمة في الغرب، وبعض دول جنوب شرق آسيا، وهو أمر لا ينفي طبعاً أنها أكثر عدالة من ديمقراطيات عديدة في الشرق.والمعنى أن أي مرشح في انتخابات غربية يعرف أنه قد ينتمي إلى حزب سياسي، وأن هذا الحزب إما في السلطة أو طامح إليها، وأن الانتخابات ستحسم موقع هذا الحزب والنواب المنتمين إليه في الحياة السياسية بالبلاد لدورة برلمانية من سنوات معينة. والمرشح، العضو البرلماني لاحقاً، في هذا النظام يعمل في أفق مفتوح، من نائب إلى عضو في حزب يحظى بأغلبية، فيقود ائتلافاً أو يحكم بمفرده، وهكذا تدور الدوائر، فإذا بالمعارض اليوم حاكم غداً والعكس صحيح.وإذ ينسد الأفق السياسي، وتنفصم العلاقة السببية بين الديمقراطية والرفاه وربما الأمن، وتتعزز التقليدية في المجتمع برفضه الواضح للحداثة تحت دعاوى دينية وقبلية رائجة، تتضاءل قيمة الممارسة الديمقراطية إذ لم تُكتسب بالتضحيات الغالية، ويسهل على البعض «التلهي» بها، وربما «إلهاء الآخرين» بها، معتبراً إياها «لعبة شعبية».لذلك يجب أن ينفتح الأفق عبر المطالبة بإنشاء الأحزاب، وتقنين الترشح إلى المجلس من خلالها، ومحاربة «الفرعيات»، وتحجيم تأثيرات القبيلة والتيارات الدينية والرشاوى في الانتخابات، وجعل منصب رئيس الوزراء منصباً سياسياً بامتياز، يحق للتكتل أو الحزب السياسي الفائز بالانتخابات احتلاله، ومن ثم قيادة الحكومة من خلال برلمان منتخب متجانس ومتعاون معها من أجل مصلحة البلاد. هنا ستكون الديمقراطية الكويتية لعبة سياسية مثمرة وجادة تخطو بالكويت إلى الأمام، وليست «لعبة شعبية» تحرفها عن قضايا الوطن الحقيقية ومستقبله.* كاتب مصري