المحاكم والمظالم الإدارية!

نشر في 30-01-2009
آخر تحديث 30-01-2009 | 00:00
 د. حسن عبدالله جوهر إذا أردنا أن نعرف حجم هذه المشكلة الإدارية المزمنة والمزعجة للجميع، فليطلب مجلس الوزراء من أعضائه إحصائية سنوية بعدد الشكاوى والتظلمات المرفوعة إلى الوزارات وديوان الخدمة المدنية واللجنة البرلمانية المختصة والدعاوى والطعون المرفوعة في المحاكم، وإخضاع تلك الإحصاءات إلى ما يعرف بتحليل المضمون ليكتشف بنفسه كيف تحولت مؤسسات الدولة والدوائر الحكومية إلى «عِزّبْ» وإقطاعيات!

حكم محكمة الاستئناف النهائي بإلغاء 59 قراراً لوكيل وزارة المواصلات بشأن شغل وظائف إشرافية وقيادية في الوزارة عام 2007 بحاجة إلى وقفة جادة من قبل مجلس الوزراء، خصوصا أن الحكم المذكور يقضي أيضاً بإلغاء كل ما ترتب من آثار على تلك القرارات طوال السنتين الماضيتين.

وبقدر ما يعكس الحكم القضائي من تفاؤل وثقة بسلطان القانون وهيبة السلطة القضائية باعتبارها صمام أمان لميزان العدالة وإنصاف المظلومين، فإن ذلك يدعو للكثير من التشاؤم وانعدام الثقة في تصرفات السلطة التنفيذية والقائمين عليها، وهي الإدارة العريضة المهيمنة على مصالح الدولة ومواطنيها.

وبالتأكيد، فإن ما خفي كان أعظم، فالله العالم كم من القرارات المماثلة التي بخست حقوق المواطنين، ومسحت بجرة قلم طموحات خيرة موظفي الدولة في المؤسسات المختلفة، وقضت على سنوات طويلة من خدمتهم وتفانيهم وإخلاصهم في العمل من أجل التدرج الوظيفي، فاكتفوا إما بالسكوت واحتساب مظالمهم عند الله، وإما لم تمكنهم ظروفهم وقدراتهم المالية من توكيل محامين للدفاع عن حقهم، وإما أنهم قدَّروا الوقت والجهد المطلوب بذلهما في أروقة المحاكم فوجدوا أن ما تبقى من عمرهم الوظيفي لا يستحق عناء ذلك.

وإذا أردنا أن نعرف حجم هذه المشكلة الإدارية المزمنة والمزعجة للجميع، والتي قد تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لأمراض التخلف البيروقراطي وأحد مفاتيح ترهل الجهاز الحكومي وفشله في تحقيق أي تطور أو إبداع أو ارتقاء بمستوى البلد مقابل دق إسفين الفرقة بين أبنائه وهدر نصف الميزانية العامة سنوياً على هذا القطاع العملاق، فليطلب مجلس الوزراء من أعضائه إحصائية سنوية بعدد الشكاوى والتظلمات المرفوعة للوكلاء المساعدين والوكلاء والوزراء وتلك المنشورة في الصحف والمقدمة لديوان الخدمة المدنية والشكاوى المقدمة للجنة البرلمانية المختصة والدعاوى والطعون المرفوعة في المحاكم، بل والأهم من ذلك إخضاع تلك الإحصاءات إلى ما يعرف بتحليل المضمون ليكتشف بنفسه كيف تحولت مؤسسات الدولة والدوائر الحكومية إلى «عِزبْ» وإقطاعيات تتحكم بها وترسم معالمها العصبيَّات الضيقة بكل أنواعها الطائفية والقبلية والطبقية الاجتماعية والانتماءات الحزبية على حساب المصلحة العامة.

ولا أعلم سر سكوت مجلس الوزراء تحديداً في تجاهل مثل هذه الظاهرة الخطيرة وضرب أسس وقواعد التوصيف الوظيفي وقوانين العمل، وهل هذا الدور الرقابي منوط فقط بمجلس الأمة الذي قد يكون بدوره متورطاً من خلال بعض أعضائه في تعزيز هذه المخالفات... أم أن القيامة السياسية قد تقوم كالعادة على شماعة التأزيم وعرقلة مشاريع التنمية في حالة التصدي لمثل هذه القضايا بالقوة التي تستحقها بما في ذلك استخدام المساءلة البرلمانية التي قد تفسر أحياناً بأنها من أجل تعيين الموالين لهم في تلك المناصب فندور في حلقة مفرغة من جديد؟ وإلا كيف نفسر ما هو الأدهى والأمر في عدم محاسبة المسؤولين عن تلك القرارات التي يحكم القضاء ببطلانها بل والجرأة حتى في عدم تنفيذ الكثير من هذه الأحكام القضائية؟!

وقد يكون التفسير الأخير وراء هذا الصمت الحكومي تجاه هذه الجرائم الإدارية والقانونية، هو مباركة الحكومة نفسها لذلك؛ كأداة سياسية لكسب الولاءات واحتكار الحاجة الحقيقية إليها، وكطعم مغرٍ للتوزير والتعيينات عالية المستوى في المناصب العامة، لتستمر هذه العجلة في الدوران والنتيجة، مزيد من النزيف في الكوادر المخلصة وتحويل الفساد الإداري وما يتبعه من أنواع الفساد المالي والأخلاقي إلى منظومة مؤسسية يشارك في بقائها ودعمها والمحافظة عليها الجميع إما اختياراً وإما قسراً!

back to top