تغيرت ملامح الشهر الكريم وتحول رمضان إلى مهرجان للاستهلاك والتسويق والسهر والكسل والإسراف، فصرنا نستهلك في رمضان وحده ما نستهلكه في ثلاثة شهور، ونكافئ أنفسنا على الصيام بطوفان المسلسلات التلفزيونية التي لم نعد قادرين على متابعة معظمها، وبكل برامج الترفيه والتسلية والمسابقات.

Ad

قبل عقود كان لشهر رمضان وجه آخر أهم ملامحه الورع والصبر والزهد والرحمة والتواصل والصفاء والعطاء.

رأيت ذلك الوجه في القرى عندما كنت صبيا وطفلا ورأيته في قاهرة الستينيات والسبعينيات قبل انفتاح أبواب الاستهلاك والفساد والاحتكار والفوضى. الورع الرمضاني كان في ذلك الوقت يلف الكبار والصغار ويرفع راية العائلة والوطن ويرسخ التكافل.

في قريتي كان هذا الوجه يحض الأطفال على تحمل مشقة الصيام خاصة في الصيف والاستبسال والصمود إلى موعد الإفطار، ومازلت أتذكر صيحة النشوة التى أطلقتها قبل أكثر من نصف قرن عندما استطعت صيام يوم كامل من أيام الشهر المبارك، وقد كنا في الطفولة نكد ونقاوم محاولين إتمام الصيام إلى آخر النهار، وكنا عندما تنهار مقاومتنا أحيانا نتوارى في الحقول لكي نشرب أو نأكل، وكان الكبار يروننا دائما فيبتسمون قائلين «نسيتم... والنسيان لا يبطل الصيام»

في القرى كانوا رغم ورعهم والتزامهم يضاحكون المفطرين في رمضان ويمازحونهم، ولم أنس حتى الآن عواصف الضحك والنكات التي كان يثيرها جارنا الجمال الذي كان ينقل بجمله المحاصيل من الحقول إلى القرية والقرى المجاورة وكان بسبب مشقة الصيام في الصيف يهاجم عبدالناصر وثورة يوليو التي لم تصدر قرارا بجعل الصيام ليلا، خاصة في الصيف لكي يستطيع الناس مواصلة كدهم وسعيهم.

متع صغيرة كان رمضان الكريم يتيحها لأطفال القرى في الماضي، في مقدمتها اللعب بالفوانيس والمشاركة في حلقات الذكر وسماع المنشدين والمداحين والشعراء الجوالين وحمل دفوف المسحراتي وطبوله ومرافقته. في الخمسينيات كانت القرى شبه معزولة قبل ظهور التلفزيون وانتشار أجهزة الراديو، وكان عليها من ثَم الاعتماد على شيوخها ومداحيها ومطربيها ومهرجيها لإحياء ليالي الشهر المبارك.

في قاهرة الستينيات والسبعينيات رأيت ذلك الوجه الرمضاني نفسه، فقد كان المجتمع مشغولا بأحلام الاكتفاء الذاتي والبناء والتصنيع والإنتاج وترسيخ التقدم. التلفزيون كان في ذلك الوقت قليل الانتشار ومحدود التأثير ساعات بثه لا تتجاوز العشر، وكان الحضور الأكبر للبرامج والمسلسلات الإذاعية، خصوصا البرامج الفكاهية والدينية والفوازير والمسحراتي، وهي برامج كرسها التلفزيون بعد ذلك وصارت لسنوات عديدة من المواد الرمضانية الأساسية، وأظننا لم ننس الشاعر فؤاد حداد وعمله الشهير «المسحراتي» الذي صار علامة عليه، والذي أثر في عدد كبير من الشعراء بعد إذاعته، وهو عمل شعري ارتدى فيه الشاعر قناع مسحراتي مصر وراح يجوب الواقع والتراث والتاريخ كاشفا ومستكشفا:

«المشى طاب لي

والدق على طبلي

وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال

حبيت... ودبيت كما العاشق ليالي طوال

دي ليالي سِمحه

نجومها سِبحه

اصحى يا نايم وحد الدايم»

ثم توارى ذلك الوجه في نهاية السبعينيات وبدأت ملامح أخرى تغزو الوجه الرمضاني المألوف وتحول رمضان في الأعوام الأخيرة إلى مهرجان للاستهلاك والتسويق والتسلية، فتوارت الملامح الرمضانية الجميلة والأصيلة لتفسح المجال لملامح أخرى تناسب الأثرياء فقط والقادرين، ومن عزلوا أنفسهم عن المجتمع وقضاياه، ولكي تشعر الفقراء في الوقت نفسه بهامشيتهم وعجزهم وفداحة فقرهم.

في الماضي كان شهر رمضان يوحد الجميع تحت راية الزهد والكرم والتواضع والتواصل، ويوفر لهم بالإضافة إلى المتع الروحية بعض المتع الصغيرة الأخرى التي كانت تبهج وتسلي وتجدد الانتماء، لكن الانقلابات الاقتصادية وموجات الغلاء والاحتكار بدلت الملامح والرايات، وأطاحت بالبسطاء وبالمتع الصغيرة التي كانوا يحلمون بها.

* كاتب وشاعر مصري