الشعبوية مذهب نخبوي، يعتبر «الشعب» معيارا للسياسة السليمة والمعرفة الصحيحة. السياسة السليمة هي التي «تخدم» الشعب وتلبي «مصالحه الحقيقية»، ومن غير المحتمل أن يطور سياسة كهذه إلا «الملتصقون» بالشعب من أبنائه، وفيما عدا الالتصاق، لا تحتاج السياسة هذه إلى تأهيل نوعي ولا إلى أطر مؤسسية فاعلة، بل إن هذه قد تقف حائلا دون التواصل بين الشعب والزعامة التي قد تحكم باسمه. أما المعرفة الصحيحة فهي تلك التي تتحصل من القرب من الشعب و«الإصغاء إلى نبضه»، ولا تحتاج بدورها إلى تأهيل خاص أو مفاهيم نوعية أو إلى هياكل مستقلة للنشاط المعرفي والثقافي. وقد نميز بين شعبوية يسارية موجهة ضد الأرستقراطية أو الأغنياء، تعرف الشعب بلغة الأوضاع الاجتماعية والمصالح المادية، فيبدو كجماهير كادحة أو فقراء، وبين شعبوية يمينية موجهة ضد الغرباء أو الأجانب، تعرف الشعب بلغة الهوية والثقافة والدين والعنصر، وتحرص على نقائه وتجنيبه الاختلاط بأعراق أو ثقافات أو أديان منحطة. وترتبط بالشعبوية اليمينية حركات قومية متعصبة قد تمارس التطهير العرقي كالنازية والقومية الصربية بعد تيتو، بينما كانت الحركة القومية العربية في خمسينيات القرن العشرين وستينياته أقرب إلى الشعبوية اليسارية، وإن برز فيها تركيز مفرط على الثقافة والهوية، سهّل لصدام حسين ممارسة تطهيرية ضد الأكراد في ثمانينيات القرن نفسه. أما النخبوية فهي مذهب نخبوي بدوره، يجعل المعرفة والسياسة إبداعا لفئة مختارة، تتميز عن العامة بعلمها الموروث (الفقهاء) أو بتأهيل خاص حظيت به (درست في جامعات غربية) أو بانتمائها إلى حزب سياسي أو تيار إيديولوجي (شيوعي، قومي عربي، علماني...)، أو بجهادها (منظمة القاعدة) أو بأصولها الدينية والثقافية (أقلية ما) أو بمنبتها (أبناء المدن)... النخبوي يجعل من السياسة والمعرفة اختصاصين حصريين، أما الشعبوي فينكر الاختصاص ذاته. لكن في المآل يؤسس الشعبوي لسلطة استبدادية تجعل من «الشعب» سلما إلى السلطة والنفوذ، بينما يؤسس النخبوي سلطة استبدادية قد تجامل الشعب لكنها تحتقره وتعامله كبهيمة. ولا غرابة في وحدة المآل، فنحن حيال مذهبين نخبويين، أو استراتيجيتين مختلفتين لمنح السلطة للنخبة.

Ad

ووراء الفارق الظاهر بين الشعبوية والنخبوية فإنهما يشتركان في إنكار استقلال كل من السياسة والمعرفة، وكذلك السياسي والمثقف. الشعبوي يجعل من استقلال المعرفة انفصالا عن الشعب وتعاليا عليه. المعرفة هنا ليست إلا تعميما للتراث الشعبي (في كل نزعة تراثية نزوع شعبوي). وهي فعل مشاركة مع الشعب في حياته ومعيشته، وليست فعلا مستقلا بأدواته ومناهجه ومؤسساته. لا نحتاج إلى مناهج جرى تطويرها على يد مختصين لفهم مجتمعاتنا وثقافتنا، ولا إلى مفاهيم منفصلة عن التجربة المباشرة، ولا إلى جامعات ومراكز للبحث والمعرفة. وبالمثل، لا نحتاج إلى مؤسسات سياسية معقدة مثل الأحزاب السياسية المتعددة والمتنازعة وأجهزة السلطة الإدارية والأمنية والاقتصادية والتعليمية والبرلمانات التي تتجادل فيها وتتخاصم كتل وأحزاب متنوعة، والانتخابات العامة التي تكاد تكون حربا أهلية دورية متفقا عليها. كل هذه تقف عوائق دون تواصل الشعب والزعامة أو تمعن تفريقا في الشعب وطعنا في اللحمة الوطنية. وينصب الكره الشعبوي في البلاد العربية على الحزب السياسي، وقد صاغه معمر القذافي في حكمة «أصيلة» رثة: من تحزب خان! بالمقابل يعلي الشعبوي من شأن «الوحدة الوطنية»، التي حازت في سورية تعريفا قياسيا: «الوقوف صفا واحدا خلف القيادة التاريخية الحكيمة». وبينما تقطف الشعبوية العلم والسياسة من شجرة الشعب مباشرة، فإن النخبة التي قد تكون حزبا، أو مجموعة من المثقفين، أو طبقة، أو طائفة.. هي الشجرة التي يقطف منها النخبويون ثمرات العلم والسياسة اليانعة. وعلى مثالها ينبغي أن يتشكل الجمهور الذي لا شكل له لولاها. الأمة إسلامية، يقول الإسلامي، و»الإسلام هو الحل» الذي يخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الحاكمية الإلهية؛ ويتطوع السلفي الجهادي لقتل خصومه أو تفجير نفسه بينهم، لأنه على الحق وهم أما أغمار لا شأن لهم أو أعداء يباح القضاء عليهم. ويريد الشيوعي اللينيني «نقل الوعي» إلى الطبقة العاملة أو عندنا إلى الجماهير الشعبية الكادحة، كي تتحرر من استلابها وتثور على مستغليها وتبني المجتمع الاشتراكي. ويكاد العلماني النخبوي يكون نسخة طبق الأصل عن المحازب اللينيني، لكنه ينقل وعيا مختلفا إلى جمهور مسلوب الوعي على يد رجال الدين والتيارات الأصولية. ويمنح الطائفي رسالة خاصة لجماعته لكونها الأكثر تدينا أو الأكثر تحررا من الدين أو الأشرف دينا أو الأرقى دينا أو الأكثر حداثة أو الأصلب مقاومة. ليست النخبوية والشعبوية نقيضان إذن، هما وجهان لإنكار استقلال السياسة والمعرفة، ونقيضهما الحقيقي تاليا هو الاستقلال هذا. الموضوعية في المعرفة والديمقراطية في السياسية هما نقيض الشعبوية والنخبوية معا. نحصل على المعرفة عبر الخضوع للموضوع والتبعية له وليس بالتبعية للشعب أو لمذهب عبقري ما. وعبر عملية موضعة الواقع وتنظيمه وضبطه والانفصال عنه تتكون ذات تعرف وتنضبط بمعرفتها وتستقل بها. قد يخطئ الشعب كله وأجيال من البشر والكنيسة الكاثوليلكية المهيبة، ويصيب غاليليه. بل إن الشعب دائما على خطأ من وجهة نظر المعرفة (خلافا لما يقرر دستور الشعبوية» الشعب دوما على حق»). وهذا لأن المعرفة منهجية وتخصصية، وهي مستقلة لأنها كذلك. وليست الدولة جهازا بلا روح يستمد روحه من الصلة المباشرة بين الشعب والزعيم، وليس السياسي زعيما حلت فيه روح شعبه أو جماعته. الدولة مؤسسة عليا مستقلة عن الشعب ككل وعن أي من مكوناته، ولها منطقها الذاتي الذي يحوّر المطالب والضغوط الاجتماعية الجزئية دوما، ويصوغها في صورة قانونية عقلانية وعامة. وهي موجهة نحو المصلحة العامة في الداخل تمييزا عن أي مصالح جزئية والمصلحة الوطنية في الخارج. والسياسي الديمقراطي هو الذي ينجح في الربط بين أي مصالح جزئية قد يمثلها وبين المصلحتين العامة والوطنية. أما رجل الدولة فيتمثل عقلا عاما، مستقلا بالضرورة عن أي مصالح جزئية. فليست الدولة أداة سلبية تحركها الروح الشعبوية أو العبقرية النخبوية. إنها مؤسسة تطورت تاريخيا على يد الحنكة البشرية لتأمين أقصى قدر من الحرية والمساواة معا. ولا ديمقراطية خارجها أو ضدها. اللهم إلا في حضارة غير حضارتنا الراهنة.

* كاتب سوري