استعاد الشاعر السعودي محمد الثبيتي وعيه، بعد أن أُدخل إلى المستشفى إثر جلطة قلبية، وبدأ التعرف إلى من حوله من أبنائه وأفراد أسرته، كان الخبر مُفرحاً إلى الحد الذي يجعلك تتأمل التضاريس من حولك، وتردد ترنيمة الصعلوك ، و تغريبة القوافل والمطر .

Ad

لم تُتَح لي فرصة التعرف إلى الثبيتي عن قرب، لكني كنت أتابع نتاجه الشعري وشغبه الحداثي منذ يفاعة سنّي في مدينة الرياض، قرأت مرّة ديوانه تهجيت حلماً تهجيت وهماً الصادر عام 1984، فوجدت صعوبة في استيعاب المفردة، أو هضم الصورة الشعرية، لم تكُن حداثة الثبيتي تناسب ما كنت أتلقاه من قصائد كلاسيكية تضجّ بها كتب المراحل التعليمية المختلفة، لكن رسخت لدي قناعة بأن هذا النص مختلف ويستحق التأمل.

بعد ذلك بعامين، أصدر الثبيتي ديوانه الشهير التضاريس عام 1986، الذي امتدحه النقاد كثيراً، واعتبره بعضهم أحد أهم معالم الحداثة السعودية في جانبها الشعري على أقل تقدير، الثبيتي ذاته بدأ يشكو هذا الاحتفاء، وقال في أحد حواراته الصحافية إن التضاريس أصبح بمنزلة السجن الذي يُحبس به كل ما أكتب، إذ تتبادر الأقلام إلى فعل المقارنة، ما أن يقرأ أحدهم نصاً جديداً للشاعر، الأمر الذي جعله يتردد كثيراً، قبل أن يطبع أي ديوان آخر.

لم يكُن إبداع الثبيتي متوقفاً على ديوان أو اثنين، فقد كان متميّزاً في كل ما يكتب، وكثيراً ما يراجع نصوصه وينقّحها قبل إرسالها إلى النشر، ولعل ذلك ما يجعله مُقلّاً. وحين أصدر ديوانه موقف الرمال موقف الجناس وقع في المأزق ذاته الذي واجهه مع التضاريس ، وهو الاحتفاء المبالغ به من الصحافة والنقاد، خرج إذن من سجن التضاريس ليقع في سجن الرمال والجناس . وعنوان الديوان مأخوذ عن القصيدة الشهيرة التي نال على إثرها جائزة عبدالعزيز سعود البابطين لأفضل قصيدة في عام 2000.

أطلق عليه بعضهم كاهن الحي بعد أن نشر قصيدة تغريبة القوافل والمطر ، يقول فيها:

أدر مهجة الصبح/ حتى يئن عمود الضحى/ وجدد دم الزعفران إذا ما امّحى/ أدر مهجة الصبح حتى ترى مفرق الضوء/ بين الصدور وبين اللحى/ أيا كاهن الحي/ أسرّت بنا العيس وانطفأت لغة المدلجين/ بوادي الغضا/ كم جلدنا متون الربى/ واجتمعنا على الماء/ يا كاهن الحي .

لا يمكن لأحد أن يتحدث عن تجربة الثبيتي من دون الوقوف عند اللغة، فهي بيته وملاذه، وهي مربط الفرس لديه، حين تقرأ الثبيتي تدرك أنه مسكون بالإيقاع، ومهووس باللغة، وهما عاملان ارتكز عليهما نص التفعيلة في بداية انطلاقه سواء في السعودية أو غيرها من الأقطار العربية.

يقول مسفر الغامدي تأتي عبقرية محمد الثبيتي من عبقرية اللغة التي يكتنـز بها، عبقرية خُلقت لكي تصنع الفراغات بين اللغة، لا لكي تملؤها... تماما كالقدح الصامت (الفارغ) وُلد لكي يكون فارغا، وولد الشعر لكي يعبر «الفضاء السحيق» في محاولة يائسة -رغم لذتها- لملئه.. وهي رحلتنا معه ومع شعره أيضا .

نظم الثبيتي الشعر وهو في سن السادسة عشرة، لكن اكتمال نضجه الشعري لم يكُن إلا بعد بلوغه 28 عاماً، وبحسب وصفه فإنه لم يقتنع بمستوى ما يكتبه إلا في أوائل الثلاثينات من عمره، قد تصيب حالة عدم الرضا هذه كثيراً من الشعراء، لاسيما المقلين منهم، وأولئك الذين يتمتعون بحس نقدي يجعلهم يبالغون في جلد ذواتهم، وأحسب أن الثبيتي أحدهم.

نرسل تهانينا من هنا إلى عائلة الشاعر الكبير، الذي أفرحنا خبر تماثله للشفاء، بقدر ما فرحنا ونحن نقرأ عن عودته إلى الساحة الثقافية السعودية قبل أشهر عديدة، وانخراطه في العديد من الأنشطة، من بينها إقامة أمسيات شعرية، وإعادة طبع أعماله.