عودة الوعي إلى العرب بأهمية العراق
- 1-يشهد العراق الآن تدفقاً رسمياً عربياً غير مسبوق، بل نجزم أنه تسابق عربي على ركوب الطائرات والتوجه إلى بغداد للسلام على هارون الرشيد، وهذه خطوات نُقدِّرها ونُثمّنها للزعماء العرب «الأشاوس»، الذين لا يظهرون إلا عندما تنطفئ النيران، ويخرس صوت مدافع المعركة، وتفوتهم القطارات، وهم واقفون على أرصفة المحطات، ينتظرون القطار الذي لا يأتي، فهكذا هم العرب في كل القضايا السياسية التي يواجهونها، يأتون دائماً متأخرين. فكم من فرصة لحل القضية الفلسطينية -مثالاً لا حصراً- فوّتوا على أنفسهم، وظلت القضية تتآكل وتذوب بين أيديهم كقُمع «الآيس كريم»، إلى أن كاد الحوت الصهيوني يبتلعها كلها الآن. ورغم أن هذه الخطوات «الأخوية المباركة»، تأتي متأخرة جداً، فإنها محمودة على أي حال. فخير لك أن تأتي متأخراً من ألا تأتي أبداً.
وتدفق العرب على بغداد، يأتي بعد أن ذاق العراق مرارة الحرية ومرارة الديمقراطية وحده، ولم يشاركه العرب في هذه المرارة القاسية، بل إن بعضهم كان سبباً فيها. وبدأ العراق الآن، يتذوق حلاوة الحرية وحلاوة الديمقراطية، فتسابق «الإخوة» العرب بدقِّ بوابة بغداد، وبدؤوا يتقاطرون على بغداد، واحداً تلو الآخر، في الوقت الذي أحجموا فيه خلال السنوات الخمس الماضية عن ذلك، وتركوا الحصان العراقي وحيداً، يكتوي بنار الحرية اللاهبة، ويذوق مرارة الديمقراطية الحنظلية.فللحرية مرارتها وحلاوتها، وللديمقراطية نعيمها وعذاباتها.-2-وقبل أيام دعا فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان أثناء زيارته لبغداد، العرب إلى احتضان العراق. في حين أننا دعونا العرب منذ بداية عملية «حرية العراق»، عام 2003 إلى احتضان العراق، وعدم ترك الحصان العراقي وحيداً، وكتبنا في مقال (العراق والأوهام العربية، 14/5/2004) نقول للعرب، إنهم بإعراضهم عن دعم العراق ومساعدته في ولادته للعراق الجديد، سوف يكونون واهمين أشد الوهم، وسوف يضيعون على أنفسهم فرصة تاريخية مهمة. وصدقت رؤانا الآن.فقد كان العالم العربي بمجمله خلال السنوات الخمس الماضية، يراهن على عودة حكم حزب البعث إلى العراق. وجزء آخر من العالم العربي الذي كان يعيش في الوهم، يراهن على عودة صدام، ويطلق عليه الرمز والضرورة والشهيد، الذي لم يمت بعد.والعالم العربي الذي عاش في الوهم، كان يعتقد في مجمله، أن «المقاومة» العراقية- التي كانت في حقيقتها «مقاولة» إرهابية وليست «مقاومة» وطنية، بمعنى أنها مجموعات من المقاولين المسلحين، ومن المرتزقة العربية المهزومة، في أفغانستان والشوارع العربية، والفاقدة لكل أمل في المستقبل، والخاسرة لكل رهانات الحاضر، والحالمة بتحقيق خرافة الخلافة الإسلامية، التي كانت كلها اغتصابية ودموية بما فيها الخلافة العثمانية، والإمارة الطالبانية- هي التي ستنتصر في العراق على إرادة الشعب العراقي، وعلى حتمية المستقبل العراقي. ولكن كل هذا، كان أضغاث أحلام، لم تلبث أن تبددت، وذهبت مع الريح.-3-والسؤال هنا هو: لماذا عاش العالم العربي كل هذا الوهم؟إن الجواب، يتلخّص في أن العالم العربي عالم جبان مع نفسه، خادع لنفسه، ليست لديه الشجاعة الكافية للاعتراف بالحقيقة الواقعة على الأرض، كما تمَّ في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وأن العالم العربي ليست لديه الشجاعة الكافية، لكي يعترف بقصوره الذاتي، وبضعفه، وفقره، وجهله، وقلة إمكاناته العلمية والعملية.لذا، فهو لن يتقدم مادام يعتبر نفسه متقدماً غير متأخر. وهو لن يتعلم مادام يعتبر نفسه متعلماً غير جاهل، وهو لن يسعى إلى القوة مادام يعتبر نفسه قوياً غير ضعيف. وإن هذا التضخم العُصابي، وهذا الانتفاخ المرضي، وهذه النوستالوجيا المتمثلة بالرضوخ المُذل لأمجاد الماضي الفانية في الذات العربية، وهذه الفوبيا (الرهاب أو الهلع المرضي)، كلها كانت سبباً في أننا نعيش وهماً كبيراً.-4-وقلنا للعرب، منذ عام 2004 في مقالنا (ما هي مصلحة العرب من هزيمة الإرهاب في العراق، 14/10/2004) بأن انتصار العراق على الإرهاب هو انتصار للعرب جميعاً، ولكننا كنا والعرب، مثلما قال الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدوذكرنا للعرب الفوائد الجمة من قضاء العراق على الإرهاب، منها:1- أن هناك حقيقة تاريخية، وهي أن الإرهاب الذي شهدناه، لو لم يوجد في السنوات الماضية، لوُجد في المستقبل القريب، نتيجة لعدة عوامل مجتمعة ومتضامنة، منها أنظمة التعليم الديني على نحو خاص، ومنها ارتفاع معدلات البطالة وانتشار الأمية الأبجدية والثقافية، وارتفاع معدلات الفساد السياسي والمالي المنتشر. وهي كلها أسباب لا ترى الأصولية الدينية والقومية لها حلاً إلا بالعنف، وبالعنف في وجه من تعتقد أنه يحمي الأنظمة التي تمارس كل هذه الكبائر. والأصولية عندما اعتمدت العنف حلاً لهذه المشاكل، فهي من حيث لا تعلم أخذت بالأسلوب الشيوعي العنيف المعروف بالثورة الحمراء البلشفية. 2- والإرهاب كحقيقة قائمة، لا قبل للعرب بمحاربته والقضاء عليه. انظروا ماذا فعل الإرهاب بقوة عظمى كأميركا؟ فإذا كانت أميركا تقاوم الإرهاب، وتريد الخلاص منه، وهي التي دفعت حتى الآن كل هذه الأموال الطائلة والدماء الغزيرة، وبعد مضي أكثر من خمسة أعوام لم تقضِ عليه نهائياً، فما بال العرب بإمكاناتهم المحدودة؟ 3- لم يعرف العالم العربي بشاعة حكم الأصولية القومية إلا بعد القضاء على الأصولية القومية في العراق بعد التاسع من ابريل 2003. وكان هذا الدرس موجهاً لكل الأصوليات القومية الحاكمة في العالم العربي. وتحاول الأصولية الدينية في العراق أن تحلَّ محلَّ الأصولية القومية. فليكن، ففي ذلك نهايتها. فالقضاء على الإرهاب لا يعني القضاء على الأصولية الدينية، التي تقف عائقاً في وجه الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. -5-وفي عام 2004 دعونا الخليجيين على وجه الخصوص إلى احتضان العراق وهي الدعوة التي أطلقها فؤاد السنيورة قبل أيام، بعد أربعة أعوام من دعوتنا تلك. وكانت دعوتنا تلك، في مقالنا (أيها الخليجيون: احتضنوا العراق، 3/8/2004) تبررها الأسباب التالية:1- يعتبر العراق أقرب للخليج من أي بلد عربي آخر، جغرافياً وسكانياً واجتماعياً. وعندما اشتد العُصاب القومي العراقي الكاذب ببعض الحكام العراقيين، لم يجدوا بلداً يدّعون بأنه جزء تاريخي وجغرافي من العراق غير دولة خليجية كالكويت.2- إن العراق يمثل امتداداً سكانياً للخليج حيث تمثل القبائل والعشائر العراقية امتداداً للقبائل والعشائر الخليجية عموماً. ولعل قبيلة شمّر التي كان منها رئيس الجمهورية العراقية السابق غازي الياور، خير مثال على جغرافية العشائر، التي تغطي منطقة الخليج وجزءاً من سورية والأردن.3- إن استتباب الأمن في العراق، هو استتباب للأمن في الخليج كله. فالعراق هو مفتاح الخليج الأمني، ولقد ظل الخليج مهدداً بالقلاقل والاضطرابات وعدم الاستقرار يوم أن كان يحكم العراق طاغية أراد بإثارته للقلاقل في الخليج أن يأمن شر جيشه، وأن يُبعد الجيش العراقي عن الانقلابات ضده، كما اعترف في الجلسة الأولى لمحاكمته في 7/7/2004.4- إن العراق يمثل امتداد الثروة النفطية الخليجية الهائلة، بل إن العراق هو العمق الاستراتيجي النفطي للخليج، وبإقامة حكم وطني عادل وعاقل وديمقراطي في العراق يضمن الخليج أمنه النفطي الذي سبق وهدده صدام حسين، وكان من الأسباب الرئيسة لحرب الخليج 1991.5- إن غنى العراق بالموارد المالية (دجلة والفرات) يمكنه من أن يكون الساقية التي تروى عطش الأرض والبشر في الخليج. كما يمكن للعراق مستقبلاً أن يكون بستان فاكهة الخليج، وسلة خبزه، لكثرة مياهه، واتساع رقعته الزراعية.فهل عاد الوعي العربي الآن بأهمية وعظمة العراق؟ نأمل ذلك، ففي هذا مصلحة للعرب وللعراق.* كاتب أردني