Ad

لا مناص أمام الإنسان سوى أن ينتمي إلى قيمة أو فكرة أو رمز أو مؤسسة اجتماعية، أو كل هذا معا، لأن هذا الوضع يجعله يشعر بأن لحياته فائدة، ولوجوده قيمة، ويحميه من الضياع والاغتراب.

مَن يمعن النظر في الاتجاه الأساسي الذي أخذته قيمة الانتماء في حياتنا المعاصرة يجد أنها قد تعلقت بمسألة «الوطنية»، فجميعنا آمن بأن الانتماء الى الأوطان، أرضا وتاريخا وحضارة، يمثل شحنة عاطفية وروحية تدفع المرء إلى العمل الجاد والمشاركة البناءة في سبيل تقدم ورفعة بلاده، وأنه بغير هذا الشعور قد ينزلق الإنسان في الاتجاه المضاد، ويصبح متطرف التفكير والسلوك، بل وتثار علامة استفهام حول هدف حياته.

وهنداك مفاهيم مرتبطة بالانتماء أو تمثل درجة من درجاته، مثل الولاء، والالتزام، والإحساس بروح الجماعة والعضوية. والولاء ينبع من الحب التلقائي، المجرد من المصلحة، الذي يجعل الفرد يميل إلى التحدث والتصرف في القضايا العامة والدفاع عنها، خصوصا إذا كان لديه شعور بعدل القائمين على الأمر. وقد ارتبطت فكرة الولاء بالحكومات أكثر من ارتباطها بأي تنظيم أو جماعة سياسية معارضة، فمن وجهة نظر الأميركيين فإن الفكرة تبلورت في الإجراءات المدروسة التي اتبعها الرئيسان الأميركيان ترومان وإيزنهاور في ترسيخ ولاء أفراد الشعب لخدمة الحكومة، ولذا يعتبرون الشخص الموالي Loyalist أنه الشخص الذي يكرس نفسه لخدمة الحكومة، من منطلق الثقة بالقادة السياسيين، مهما تكن درجة جدارتهم أو طبيعة سياساتهم.

ويعتبر الولاء من أهم مؤشرات تكامل المجتمع السياسي، إذ إن المجتمعات التي تعاني أزمة في هذا الصدد يغلب على أفرادها طابع الولاء المحلي الضيق. أما المجتمعات المتكاملة التي تسودها ثقافة سياسية حديثة، فإن أفرادها يتجهون بولائهم نحو الدولة القومية، بما يتضمنه ذلك من إعلاء المصلحة العامة، والوعي بالمشكلات والقضايا الكبرى التي تمر بها الدولة، أما الالتزام فهو شعور بمسؤولية أخلاقية تجاه المجتمع، تجعل الفرد يؤدي واجبه على أكمل وجه، ويحترم القانون. وهذا، بالطبع، يتطلب توافر العدل، أي إحساس هذا الفرد بأن الحكومة تتوخى العدالة في ما تتخذه من قرارات لترتيب مختلف الأوضاع الاجتماعية.

ويرتبط الإحساس بروح الجماعة بمفهومي «الوجدان الجمعي» و«التضامن»، والأول يعني اشتراك عدد كبير من الأفراد في الشعور نفسه، سواء كان السرور أم الحزن أم الغضب، والثاني، يشكل أحد مظاهر الترابط الاجتماعي، الذي يشاهد بصفة عامة بين الجماعات الصغيرة، حيث تصل روح التضامن إلى درجة عالية، تدفع الجماعة كلها إلى أن تعمل كفرد واحد. أما العضوية فهي انتماء لتنظيم سياسي أو اجتماعي ما والتزام بأسلوب عمله وتوجهاته، وتسبقها مراتب منها المؤيد والمؤازر والنصير والمرشح، تبعا لطريقة عمل كل تنظيم. وفي الممارسة السياسية الإسلامية كانت هناك درجات للعضوية، مثل المستجيب والمبتدئ والمريد، وهي مراحل تأتي قبل الانضواء التام تحت لواء الحركة أو التنظيم، واستعمل بعضهم مصطلح «الشد» ليعبر عن مرحلة الانضمام إلى حركة «الفتوة» في العصر العباسي.

وعلى وجه العموم، فإن قيمة الانتماء تتجلى في عدة مظاهر، من بينها تشجيع الصناعة المحلية، والاعتزاز باللغة الوطنية والزي الوطني، والالتفاف حول علم يمثل رمزا للدولة، والتمسك بالقيم العامة التي تتفق عليها الجماعة الوطنية، والاستعداد للتضحية من أجل الوطن حين يتعرض للأخطار، بل يذهب آخرون إلى حد اعتبار التسامح في المجتمعات التي تتسم بفسيفسائية عرقية أو لغوية أو دينية أو غيرها هو دليل قاطع على الانتماء، إذ إن التعصب يشكل ثغرة واسعة ينفذ منها العدو الطامع إلى الصفوف المتراصة والمنتظمة فيمزق وحدتها ويبدد شملها ويفرض سلطانه عليها، ويجد في التعصب تربة خصبة يبذر فيها بذور الشقاق. ولذا فإن الشخص المتسامح غيور على وطنه، حريص على تجنيبه الأخطار، خصوصاً في الوقت الراهن، الذي باتت فيه الدول الكبرى، تتذرع بمسألة حقوق الإنسان وأوضاع الأقليات وتتدخل في شؤون بعض الدول، لحسابات سياسية بحتة لا تمت من قريب أو بعيد لأي نزعة إنسانية.

ومما لا شك فيه أن الانتماء قيمة عظيمة في حياة الأفراد والشعوب على حد سواء، إذ لا مناص أمام الإنسان سوى أن ينتمي إلى قيمة أو فكرة أو رمز أو مؤسسة اجتماعية، أو كل هذا معا، لأن هذا الوضع يجعله يشعر بأن لحياته فائدة، ولوجوده قيمة، ويحميه من الضياع والاغتراب، الذي ينبع من وجود صراع بين قيم متضاربة تؤدي إلى تلاشي الذات وسقوط الهوية الفردية والجماعية، ومن ثم الخسران المبين.

* كاتب وباحث مصري