19 ملياراً في 90 دقيقة... ما أشبه الليلة بالبارحة!
بعد نقاش عام ومرسل استمر نحو تسعين دقيقة فقط، أقر المجلس أضخم ميزانية عامة في تاريخ الكويت (19 ملياراً... وبزيادة مليار و169 مليون دينار على مشروع الميزانية)، من دون خطة تنموية، ومن دون معرفة ما هي البرامج والمشاريع العامة التي ستصرف عليها هذه المبالغ الفلكية؟!
من المؤسف أن التجديد قد غاب عن حياتنا العامة، فالمشاهد تتكرر في ساحتنا السياسية للدرجة التي نبدو معها وكأننا نعيد إنتاج أزماتنا. ففي مايو 2006، بدأت مطالبات شعبية وبرلمانية لتغيير النظام الانتخابي رفضتها الحكومة في حينه «جملة وتفصيلاً»، وتطور الأمر إلى مشادات وسجالات سياسية حادة بين الحكومة ومجلس الأمة انتهت بحل المجلس وإجراء انتخابات عامة في صيف 2006، عاد بعدها تقريباً المجلس والحكومة نفسيهما أيضاً، ثم وفي أولى جلسات المجلس وافقت الحكومة على القضايا نفسها المختلف عليها قبل الحل، وهنا نتساءل بحيرة لماذا رفضتها قبل الحل إذن؟ويتكرر المشهد؛ ففي نهاية عام 2007، قامت تحركات شعبية ونقابية ونيابية تطالب بزيادة الرواتب وإسقاط القروض، رفضت الحكومة تلك المطالب في حينه «جملة وتفصيلاً»، ثم فجأة، وبعد فترة قصيرة، تعود الحكومة نفسها إلى الموافقة على زيادة الرواتب وإقرارها بشكل لم يرضَ عنه أعضاء المجلس، مما جدد الخلاف الحكومي البرلماني بشأن موضوع زيادة الخمسين ديناراً ورأسمال صندوق المعسرين الذي طُرح كبديل لإسقاط القروض أو فوائدها، فأبدت الحكومة عدم رضاها عما يطرحه الأعضاء من «دغدغة لمشاعر المواطنين» حسب وصفها، وقدم الوزراء استقالاتهم الجماعية لرئيس مجلس الوزراء، وعلى إثر ذلك حُل المجلس وأجريت انتخابات عامة في 17 مايو 2008، عاد بعدها أغلب أعضاء المجلس السابق وأغلب أعضاء الحكومة التي أبدت عدم رضاها عن عملية «دغدغة مشاعر المواطنين». وفي أول جلسة للمجلس الجديد طُرحت المطالبات المالية السابقة نفسها، وجددت الحكومة مرة أخرى رفضها لهذه المطالبات «جملة وتفصيلاً»، واصفة إياها بمشاريع تأزيم للعلاقة بين السلطتين، لا بل أكد وزير المالية لصحيفة «الجريدة» بتاريخ 20 يونيو 2007 «موقف الحكومة الرافض لزيادة رواتب العاملين في الدولة بواقع خمسين ديناراً، مشدداً على تمسك الحكومة بموقفها الصريح والواضح وستثبت ذلك في جلسة الرابع والعشرين من الشهر الجاري»، وبرر هذا الرفض بأن «الزيادة ستؤدي الى تضخم الباب الأول من الميزانية العامة للدولة وستصل التكلفة إذا أقرت إلى ما يقارب خمسة مليارات دينار سنوياً»، منبها إلى «أن ذلك يعني أن يلتهم هذا الباب معظم إيرادات الدولة»، ومتسائلا «ماذا سيبقى للأبواب الأخرى في الميزانية، لاسيما المشاريع الإنشائية». ثم... وفي يوم الجلسة الموعودة، تكون المفاجأة الكبرى بموافقة الحكومة على هذه الزيادة بعد إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها. وهنا يتكرر السؤال، لماذا رفضتها الحكومة إذن قبل الحل؟ وأين التأكيدات الجازمة لوزير المالية برفضها قبل ثلاثة أيام فقط من إقرارها، وأين ذهبت تخوفاته من تضخم الباب الأول؟! ولماذا وافقت الحكومة إن كانت تعتبر أن العملية ما هي إلا «دغدغة لمشاعر المواطنين»؟ هذا على مستوى الحكومة، أما على مستوى مجلس الأمة، فقد أقر المجلس بتاريخ يوليو 2007، أضخم ميزانية عامة في تاريخ الكويت (في ذلك الوقت) من دون خطة تنموية استراتيجية، إذ لم يكن المجلس يعرف وقت إقراره لهذه الميزانية الضخمة ما هي السياسات العامة والبرامج والمشاريع الحكومية التي أُعدت بناء عليها؟ وها هو المشهد نفسه يتكرر هذا العام، ففي الأسبوع الماضي أقر مجلس الأمة، بعد نقاش عام ومرسل، استمر نحو تسعين دقيقة فقط، أضخم ميزانية عامة في تاريخ الكويت (19 ملياراً... وبزيادة مليار و169 مليون دينار على مشروع الميزانية)، من دون خطة تنموية، ومن دون معرفة ما هي البرامج والمشاريع العامة التي ستصرف عليها هذه المبالغ الفلكية؟! وإذا ما عرفنا بحسب ما ذكر رئيس لجنة الميزانيات العامة والحساب الختامي البرلمانية، أن الاعتمادات التكميلية قد بلغت 900 مليون دينار توزعها وزارة المالية كيفما تشاء، وأن البابين الثالث والرابع المخصصين للمشاريع التنموية في ميزانية الـ19 ملياراً، قد انخفضت قيمتهما بنحو 53 مليون دينار في مقابل المصروفات الاستهلاكية، وأن هذه هي «إمكانات» أغلب أعضاء مجلسنا في مناقشة الميزانية العامة للدولة، فعلينا ألا نتعجب من أن آخر مستشفى حكومي بني كان قبل نحو خمسة وعشرين عاماً، وأن آخر طريق سريع شُيد كان قبل نحو ثلاثين عاماً، وأن طابور البطالة، حتى بين الخريجين، يزداد عاماً بعد آخر، وأن الخدمات التعليمية والصحية والإسكانية والاجتماعية يزداد ترديها يوماً بعد آخر.