مئذنة قايتباي هي أقدم ما تبقى من المآذن التي ألحقت بالمسجد النبوي الشريف على مر العصور . وقد شيد هذه المئذنة السلطان المملوكي الملك الأشرف قايتباي في نهاية القرن التاسع الهجري «15 م » ضمن أعماله المعمارية التي اختص بها مسجد رسول ا لله صلى الله عليه وسلم، ومن بينها مقصورة نحاسية للحجرة الشريفة حملت من القاهرة إلى المدينة المنورة في عام 888 هـ . مع تجديده للحجرة الشريفة ذاتها وما جاورها، والمحراب المنسوب إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

Ad

واختار قايتباي لمئذنته الفريدة، هيئة رشيقة سامقة وتتكون من ثلاث دورات جريا على طرز المآذن المملوكية . وجاءت الدورتان الأولى والثانية على هيئة بدن ثماني الأضلاع، وإن كانت الدورة الثانية أقل ارتفاعا واتساعا من الدورة الأولى .

وتتميز الدورة الأولى بزخارف رخامية ملبسة في الحجر على هيئة زخرفة متعرجة تشبه الزجزاج، وهي تعرف في تلك الفترة باسم الزخارف الدالية - نسبة لحرف الدال - وتنتهي هذه الدورة بشرفة للأذان محمولة على صفوف من المقرنصات البديعة .. أما الدورة الثانية فقد فتح في كل من أضلاعها الثمانية شباكا فوق نافذة معقودة، لتوفير الإضاءة والتهوية لدرج السلم الذي يصعد به المؤذن إلى شرفة الأذان الثانية، والمحمولة أيضا على صفوف من المقرنصات الحجرية . وجاءت الدورة الثالثة على هيئة جوسق به فتحات معقودة وهي متوجة بقبة مضلعة استعار المعماري تصميمها من نهايات المآذن الشائعة الانتشار في كل من العصر الأيوبي والعصر المملوكي الأول .

ومن المعلوم أن المسجد النبوي الشريف لم يزود بأي مآذن عند تشييده، وإنما كان المؤذن ينادي للصلاة من فوق سطح أحد المنازل العالية القريبة من المسجد، وظل الوضع كذلك إلى أن كانت تجديدات الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بالمسجد النبوي عام 91 هـ والتي أشرف عليها والي المدينة والخليفة فيما بعد عمر بن عبدالعزيز وزود المسجد النبوي لأول مرة بأربع مآذن بنيت في أركانه الأربعة . وكان ارتفاع كل مئذنة 25 مترا، وطول كل ضلع في قاعدتها حوالي أربعة أمتار، ويبدو أنها كانت تشبه المآذن المربعة التي ألحقها الوليد بن عبدالملك بالجامع الأموي بدمشق، وفي المسجد النبوي الآن مئذنتان من روائع العمارة الإسلامية الحديثة، شيدتا في عهد الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز ضمن التوسعة الكبيرة التي أجريت بين عام 1373 و 1375 هـ «53 - 1955 م » ، ويبلغ ارتفاع الواحدة منهما حوالي 70 مترا .

وشيدت المئذنتان وفقا للتقاليد المعمارية والفنية، التي كانت سائدة في مصر والشام عند نهاية العصر المملوكي، دونما استعارة لمئذنة تاريخية بعينها، ولكن المهندس المعماري نجح في الجمع بين أفضل العناصر البنائية التي تعرفها المآذن المملوكية، وأدمجها في عمل واحد لم يبتعد كثيرا عن الروح الفنية التي شيدت بها مئذنة قايتباي التاريخية .

والمسجد النبوي الشريف أعطى عمارة المسجد الإسلامي في القرون الأولى للهجرة النموذج الأول الذي شيدت على أساسه مساجد الكوفة والبصرة والفسطاط ودمشق والقيروان وقرطبة، وهو النموذج المعروف لدى دارسي الآثار والعمارة الإسلامية بتخطيط « المسجد الجامع » ويتألف هذا التخطيط من صحن أوسط مكشوف، تحيط به أربع ظلات من البناء للصلاة، وهو نفس الشكل الذي انتهى إليه المسجد النبوي بعد تجديدات الوليد بن عبدالملك .

وكان المسجد عند تشييده في بداية الهجرة عبارة عن فناء مربع متساوي الأضلاع تقريبا . يبلغ طول ضلعه حوالي 35 مترا، وتحف به جدران أربعة ويتجه أحد جوانبه نحو المسجد الأقصى في الشمال . والجانب المقابل نحو الكعبة المشرفة في الجنوب، وكان أسفل الجدران مبنيًا بالحجارة وأعلاها بالطوب اللبن، وجعلت القبلة في الجدار الشمالي من حجارة بعضها على بعض ثم نقلت القبلة إلى الجدار الجنوبي في العام الثاني من الهجرة . عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام .

ويبدو أن المسجد لم يكن في أول الأمر يشتمل على ظلة، إذ تحدث المسلمون عن حرارة الشمس - كما يرد في بعض الأخبار - وعندئذ أقيمت ظلة عند جدار القبلة وكانت ترتكز على سوار من جذوع النخل، وفي الجهة الأخرى من القبلة أنشئت ظلة يأوى إليها من لا مأوى لهم، وكانت تسمى « الصفة » وسمي هؤلاء بأهل الصفة .

وبعد نحو سبع سنوات من الهجرة زيدت مساحة المسجد، فأصبح طول كل ضلع من أضلاعه حوالي خمسين مترا، وفي هذه التوسعة فتحت ثلاثة أبواب مازالت تعرف بأسمائها إلى الآن، وهي باب جبريل وباب النساء وباب الرحمة، بالإضافة إلى الأبواب التي كانت تفتح على المسجد من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي كانت ملاصقة لجدار المسجد، وتعد التجديدات الشاملة التي أجراها الأمويون بالمسجد في عام 91 هـ أولى العمائر الضخمة التي حرص الحكام المسلمون على أن يقوموا بها في هذه البقعة الشريفة، وفيها اتخذ المسجد النبوي تصميمه التقليدي من صحن أوسط وظلات أربع للصلاة، كما كسبت جدرانه من أسفل بألواح الرخام وزخرف أعلاها بفسيفساء من فصوص الزجاج الملون، وجعل السقف من خشب الساج وزخرفته بماء الذهب، وفي إطار هذه الأعمال المعمارية عرف المسجد لأول مرة وحدتين معماريتين ألحقتا به وهما المئذنة والمحراب المجوف .

وبعد عمارة الوليد أمر الخليفة العباسي المهدي بعمارة المسجد النبوي في عام 160 هـ «778 م » ، واقتصرت أعماله على توسعة المسجد نحو الشمال بحوالي 39 مترا، وفتح بابين جديدين في الجدار الشمالي وبقى المسجد على هيئته تلك حتى شاهده الرحالة الأندلسي « ابن جبير » في عام 580 هـ، ووصفه بأنه يتكون من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربع ظلات للصلاة، وأن عدد الأعمدة فيها حوالي 290 عمودا وقدرت مساحته آنذاك بنحو 225 في 165 ذراعا، وقد احترق المسجد في عام 654 هـ «1256 م » فأعاد السلطان الظاهر بيبرس تشييده على نفس هيئته السابقة، وأرسل لذلك الغرض معماريين وبنائين من مصر .

ومن أبرز ما أضيف إلى المسجد بعد ذلك تزويد الحجرة النبوية في عصر المماليك بقبة حجرية، ثم إعادة بناء المسجد وزخرفته حسب الطراز العثماني في عهد السلطان عبدالمجيد «56 - 1277 هـ » ، وتوسعته وتعميره في العهد السعودي حتى صار المسجد النبوي الآن من آيات الفن المعماري العالمي .. وتبلغ مساحة المسجد بعد التوسعات الحديثة حوالي 17 ألف متر مربع، واستخدمت في البناء أرفع المواد وأغلاها من المرمر والرخام الملون وغير الملون والأخشاب النفيسة والمعادن الغالية، واتبعت أحدث طرق البناء دون إخلال بالطابع التاريخي للمسجد، ويحتفظ المسجد بالعديد من عناصره القديمة، وبقيت أوضاع جذوع النخل التي كانت تحمل أسقف المسجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن حلت مكانها أعمدة الرخام، وكذلك مواضع أبوابه الأولى، وإلى جوار مئذنة قايتباي احتفظت أعمال الترميم أيضا بالقبة التي أشرف على تصميمها وتشييدها المعلم إبراهيم المصري كبير البنائين في عهد محمد علي عام 1266 م، مع حرصه الشديد على أن يجعل فيها كل الحجارة القديمة التي كانت في القبة التي شيدها السلطان الظاهر بيبرس .