يتساءل العديد من الأجانب من غير العرب والمسلمين عن سبب اهتمام الناخب العربي بشكل مبالغ فيه بالقضايا الدينية، وجنوحه في تمحيص عقيدة المرشح بأسلوب متشدد خلال الحملات الانتخابية، بخلاف سلوك شعوب العالم كله؟ هذا السؤال سألني إياه صحافي ياباني خلال موسم انتخابي سابق في الكويت، ولم أجد إجابة شافية له، ولكنني أجبته بشكل عام بأن التعاليم الدينية الإسلامية تعلم مجتمعاتنا أن ديننا هو دين حياة وآخرة.

Ad

وحقيقة ظل دائماً هذا السؤال يشغلني، وخلال محاولات الإجابة عنه، وجدت أننا لا نملك شيئا آخر نناقشه بجدية، فمساهماتنا في الحضارة الإنسانية في العلوم الفلسفية والاجتماعية والمادية توقفت منذ قرون، واقتصادنا وشؤون حياتنا اليومية يعتمدان على الآخرين بشكل بنيوي أساسي، وكل محاولاتنا لإثبات الوجود في العالم المعاصر باءت بالفشل، ولم يتبق لنا سوى أن نجتر أمجادنا السابقة التي يشكل الدين الإسلامي العامل المهم المتبقي منها وغير القابل للنقض أو الدحض كونه يرتكز على نصوص مقدسة من رب العالمين.

وخلال تفكري هذا، تصورت طالبا عربيا مبتعثا إلى إحدى الجامعات العالمية، يجد بجانبه في قاعة الدرس الفرنسي والأميركي والياباني والألماني والكوري، وعندما يتفحصهم فإنه سيجد أن لكل منهم إنجازه القومي والوطني المعاصر الذي يبرزه ويجعله معتدا بنفسه وإنجازات بني جلدته، بل حتى الإفريقي سيجد لديه ما يعتد به من إنجازات عظيمة رياضية تملأ الملاعب الأوروبية والأميركية ومساهمات فنية عالمية حالية، بينما ستجد العربي المسلم مرتبكاً بمصائب بلده ونكساته، أو مغروراً بلا مضمون بأمواله ومظاهر الرفاهية المبالغ فيها والفارغة، فلا يجد للتباهي وتثبيت الثقة بنفسه سوى عقيدته الدينية التي علمته بأنه من الأمة التي يقول عنها دينه بأنها «خير أمة أخرجت للناس» فيحاول أن يبرز هويته الدينية ليقدم بها نفسه.

هذا مثال ربما يعكس الأسباب الجوهرية لتعصبنا، وعودة عدد كبير من طلبتنا في الخارج بأفكار دينية متزمته وأحيانا متطرفة، ونجاح تيارات الإسلام السياسي في جعل معظمنا متعصبا ومتشددا ومنغلق التفكير، ومتمحورا على ما يُنقل عن السلف لدعم تلك الهوية وتثبيتها، دون أن تقدم تلك التيارات حتى الآن بديلاً عمليا وناجحا ليخرجنا من واقع أمتنا المزري الحالي.

وإن تيار الإسلام السياسي بكل ألوانه حصل فعلياً على فرصته في الحكم في السودان خلال الخمس والعشرين سنة الماضية وإيران وأفغانستان ودول أخرى، ولكنه لم يحقق شيئا في تغيير واقع الأمة الإسلامية وصورتها المعاصرة، بل إنه أدماها وشوهها ببروز جناحه العسكري بممارساته الإرهابية، بينما آراء مفكريه المتشددة من قضايا الحريات العامة تلحق من جهة أخرى مزيدا من الأضرار بنا عالميا.

ورغم كل ذلك فإن تيار الإسلام السياسي مازال في الكويت يفعل فعله في العقول ويبقيها على انغلاقها وتشددها، وبحسب فهمي وملاحظاتي فإن الكويت والمجتمعات العربية الغنية المشابهة هي البيئة الخصبة للفكر المتشدد الذي يتم تصديره فيما بعد للمجتمعات الفقيرة، فتكون آثاره أكثر ضررا لها بسبب اندفاعها لتحويله إلى حالة عنفية لأسباب تتعلق باليأس من تحقيق شيء يخرجها من واقعها ومعاناتها.

ويزدهر الفكر الديني المتشدد بسبب عدم وجود مشروع فكري حضاري لدينا، فمجتمعاتنا في الغالب تملك كل ما تشتهيه، ولا تخجل أن تتباهى بالسيارة الأوروبية والأثاث الأميركي والأجهزة اليابانية واللقاحات السويسرية التي لا تتوافر للأشد احتياجا لها في مواقع أخرى من العالم، ولا يبقى سوى أن تمييز تلك المجتمعات نفسها بشيء من صنعها تباهي وتفاخر به، فلا تجد سوى الفكر الديني المتشدد بعد أن طُمِست مراجع الدين الإسلامي المعاصر والمتسامح في بقية أرجاء العالم الإسلامي، وتصدر بدلا عنها فقه وتفاسير الجزء الصحراوي منها أو الآخر المرتبط بالقومية الفارسية، اللذان أصبحا ماركة مسجلة نفطية بفضل أموال اللجان الخيرية والحوزات والمؤسسات الدينية.

ويمكن بذلك أن نفسر لماذا يراهن التيار الإسلامي في الدائرة الثالثة على أن تسجيلاته المفبركة التي دسها للمرشحة د.أسيل العوضي ستفعل فعلها المؤذي لها، لأنه يعلم أن ذلك، وبالصورة التي بثت بها، سيمس طبيعة الصبغة المتشددة المتعصبة التي ستنال من مضمون الفكرة التي يعتقد أغلبية الناخبين أنها تشكل هويته وتمييزه عن سائر البشر! والتي رسخها ذلك التيار في وعي وعقول العامة.

لذلك نجد منهم من لا يريد أن يناقش ما احتواه ذلك الشريط من كلام مجتزأ ويركز على القشور، ويردد ما يسمعه عن إهانة غير صحيحة لأمهات المؤمنين من الدكتورة العوضي... وعندما يُعييك أسلوبهم السطحي في النقاش وترويج الشائعة فما لك إلا أن تضرب كفاً بكف وتتساءل: «ليش احنا متزمتين ومتعصبين؟!».

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء