المبصر يعطل غالبا حواسه الأخرى ويكتفي أحيانا بإلقاء نظرة سريعة أو بالرؤية عن بعد، في المقابل يسعى الأعمى إلى شحذ هذه الحواس والاعتماد عليها، ومن ثم الاقتراب الحميم من الواقع والالتصاق به لتذوقه وسماع صوته وتحسسه وشم رائحته.

Ad

للفعل «أرى» دلالاته العديدة: في مقدمتها المشاهدة والمعاينة، أي القدرة على الإبصار، ومنها الإدراك والفهم والمشاركة والاستيعاب، والقدرة على تأمل وتحليل الأحداث والظواهر، ومن ثم رسم خرائط المستقبل. لذلك كان نفي الفعل لا يعني سوى تأكيد وترسيخ العمى بكل أشكاله وصوره. ففقد القدرة على الإبصار يعني العمى العضوي المألوف، بينما يعني العمى المعرفي الجهل والأمية والتخلف العلمي، ويشكل التبلد والعجز عن التعاطف والمشاركة، إذ يسميه التراث الشعبي «عمى القلب»، وهناك أيضا «عمى البصيرة» الذي يعني العجز عن الاستيعاب والتأمل وتحليل أحداث الواقع وظواهره وتوقع الآتي، وبوسعنا أن نضيف «عمى الغريب» الذي يجسده الاغتراب عن العالم والخوف منه، والعجز عن الانخراط في حركته والمساهمة في رسم صورة مستقبله.

وكل أشكال العمى تمرح للأسف في مجتمعنا وتدفع بنا إلى مهاوي الجمود والتخبط والاقتتال والتشظي، ولأن الأعمى قادر على إيذاء نفسه أو غيره يبادر الآخرون دائما ومن منطلقات مختلفة إلى التدخل في شؤونه بدعوى حمايته والأخذ بيده. لذلك كثرت أصابع الآخرين التي تعبث بمصائرنا ومستقبل بلادنا، والتي لا يشغلها في الواقع سوى مصالحها ورفاهية شعوبها. والعمى هو عنوان واحدة من أجمل وأشهر روايات الكاتب البرتغالي الكبير جوزيه ساراماجو الحائز على جائزة نوبل 1998، والذي ولد في إحدى قرى البرتغال، وعمل قبل أن يتفرغ للأدب في مهن عديدة منها صانع أقفال، ميكانيكي، صحفي، مترجم، ومن أشهر أعماله «كل الأسماء- الطوف الحجري- الآخر مثلي- حصار لشبونة- والعمى» وهو في كل هذه الأعمال يضع الوجود الإنساني في بؤرة اهتمامه، وينشغل بالآخر وبالعلاقة به فاضحا الاغتراب الشرس الذي يحاصر الإنسان ويهدد وجوده.

وفي روايته يجتاح العمى إحدى المدن متخذاً شكل الوباء ليطيح بقدرة سكانها على الإبصار وممارسة وجودهم وحياتهم اليومية، ومن المعروف أن ساراماجو ينطلق في معظم رواياته من فكرة موغلة في اللامعقول يستلها من دهاليز مخيلته ليضع القارئ منذ البداية في عالم الخيال والغرابة. وهذه البداية تزلزل القارئ، توقظ وعيه وتدفعه لإعادة النظر في علاقته بذاته وبالآخر وبواقعه، ومن ثم إفساح المجال للمنسي والمكبوت والمسكوت عنه لكي يطل برأسه ويعبر عن نفسه.

المبصر يعطل غالبا حواسه الأخرى ويكتفي أحيانا بإلقاء نظرة سريعة أو بالرؤية عن بعد، في المقابل يسعى الأعمى إلى شحذ هذه الحواس والاعتماد عليها، ومن ثم الاقتراب الحميم من الواقع والالتصاق به لتذوقه وسماع صوته وتحسسه وشم رائحته. هكذا يبدأ الناس في مدينة ساراماجو في إعادة اكتشاف أنفسهم وواقعهم باللمس والشم والسمع والتذوق. وفجأة يكتشف العميان عبقرية الأصابع والأنف والأذن واللسان وهم يجوبون المدينة بحثا عن مخازن الطعام ويكتشفون أيضا أن الجميع بحاجة إلى الجميع، فالوحيد عاجز وخائف ولا فرص له في البقاء، فيشكلون الأسراب والجماعات ويجوبون المدينة كإنسان واحد كبير.

والرواية تضعنا في النهاية أمام صور العمى الأخرى خاصة عمى الاغتراب، والعمى المعرفي الناشئ عن تعطيل الإنسان لمعظم حواسه، والاكتفاء بالنظر والرؤية السريعة، ومن ثم تشكيل صورة مشوهة للواقع ومعرفة ناقصة به، كما تسعى الرواية أيضا إلى إبراز الآخر والاحتفاء به كشريك للذات وداعم لها.

فالعمى أخرج سكان المدينة من منازلهم وعزلتهم ودفع بهم إلى الشوارع والميادين وإلى التماسك وإعادة تشكيل الجماعة، إنه نقيض العزلة ويذكرنا بقصة تبحر في الاتجاه نفسه للقاص البحريني أمين صالح هي «نزيل العزلة» وهي إحدى قصص مجموعته الأخيرة «والمنازل التي أبحرت أيضا» بطلها رجل أعمى انفصل عن واقعه بسبب العمى، وراح يرسم له صورة أخرى أجمل وأبهى متكئا على مخيلته التي يرى بها كل من يعينه على عبور الشارع بطلاً وإنسانا نبيلا، ويرسم بها أيضا لمدينته وجهاً فاتناً، فالأشجار تحتل جانبي الطريق، والغابة تجاور الميدان، والأرصفة ناصعة ونظيفة، والشرفات مزدانة بالأزهار.

هذا الواقع الخيالي يتبخر بعد إجراء جراحة للبطل تعيد إليه قدرته على الإبصار، وتريه الواقع كما هو بلا زينة أو سحر أو فتنة مضافة، ولكي تضعه أيضا في نوع آخر من العمى هو عمى الاغتراب والعزلة، فالبشر الذين كانوا يساعدونه أو يتعاطفون معه في الماضي بسبب عاهته صاروا الآن أكثر فظاظة معه، وما عادوا مجبرين على إفساح الطريق له أو مساعدته، فصار من ثم عرضة للارتطام بالآخرين أو التعثر أو الارتباك على نحو لم يختبره من قبل. ويكتشف البطل في النهاية أن العمى كان ملاذا مبهجا وجميلا، وأنه خسر الكثير عندما رأى، ويدفعه ذلك الاكتشاف إلى اقتلاع عينيه لاستعادة ملاذه.