أن تكون في لبنان في هذه الأيام فأنت مرة أخرى في قلب الحدث الإقليمي والدولي، فالضباط الأربعة الذين نعتوا يوما برموز النظام الأمني السوري اللبناني، والذين اعتقلوا قبل نحو أربع سنوات من قبل لجنة تحقيق دولية خاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري بتحريض من رواد «ثورة الأرز» على خلفية اتهامهم والنظام السوري معهم بأنهم هم القتلة، يخرجون اليوم إلى الحرية دون شروط ودون توجيه أي تهمة لهم، والمبرر القانوني لإطلاق السراح هو أن ملفهم الاتهامي فارغ من أي أدلة أو قرائن أو حتى إشارات تسمح للمحكمة الدولية أن تبقي عليهم معتقلين في السجون اللبنانية أو موقوفين على ذمة التحقيق لديها ولو ليوم إضافي واحد.

Ad

إنه الحدث الزلزال من دون شك، إنه زلزال سياسي لبناني بامتياز أولا، لكنه زلزال سياسي إقليمي ودولي أيضا بامتياز، بالإضافة إلى كونه زلزالا حقوقيا وقضائيا إن لم يكن فضية أخلاقية من الدرجة الأولى لكل من القضاءين اللبناني والدولي.

فإذا كان الملف فارغا من الأساس وإذا كانت الأدلة والبراهين والادعاءات التي اعتُمدت يوم القبض عليهم سرعان ما اكتُشف بأنها كاذبة، وأن من أدلى بها هم شهود زور، وهو ما توصلت إليه اللجنة الدولية مبكرا، فما السر إذن في إبقاء أولئك الضباط معتقلين أو موقوفين كل هذه الفترة الطويلة من الزمن؟!

إنه الاتهام السياسي ولا غير، وهو كلام لا نخترعه من عندنا بل هو كلام عاد ليكرره رموز من سموا أنفسهم برواد ثورة الأرز، والذين وإن أبدوا في الظاهر قبولهم بعملية إطلاق السراح هذه إلا أنهم صرحوا بكل وضوح بأنهم لا يزالون يتهمون هؤلاء الضباط، ومن ورائهم سورية وحلفاؤها اللبنانيون سياسيا بالمسؤولية عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري كما ورد على لسان أكثر من زعيم سياسي من جماعة 14 آذار وأبرزهم كبيرهم وليد جنبلاط.

إنه كلام خطير يوجه أصابع الإدانة وليس مجرد الاتهام إلى الواقفين على قضية البحث عن قتلة الرئيس الحريري من لبنانيين ودوليين، ناهيك عن اعتراف ضمني وصريح ومباشر من جانبهم بأن الاعتقال كان سياسيا، وبالتالي كيديا وتعسفيا ولا يستند إلى أي مسوغات أو أدلة قانونية دامغة.

ثم إن أي متتبع موضوعي ومحايد لسير عملية إطلاق السراح التي امتدت لأسابيع يستطيع الاستنتاج بكل سهولة ويسر بأن إطلاق السراح إنما تم لقلة الحيلة والقدرة على الاحتفاظ بهم تحت الارتهان لفترة أطول ليس إلا.

والسؤال الكبير الآن هو: من سيصدق بعد الآن أي قرار ظني أو اتهامي جديد سيصدر من جانب المحكمة الدولية هذه بعد أن رهنت نفسها طوال السنوات الأربع الماضية لرواد الاتهام السياسي لخصومهم، ومن بعد ذلك لم تستطع أن تقدم للرأي العام العالمي ناهيك عن اللبناني السبب الحقيقي وراء قرارها الأخير، أي المسوغ القانوني لإطلاق السراح المتأخر؟! إنه أقرب ما يكون إلى إشهار الإفلاس القانوني والقضائي المبكر، فضلا عن السقوط الفضائحي لما صار يعرف بمحكمة الحريري الدولية، وإذا ما وضعنا هذه الواقعة في سياقات ما يجري على صعيد التعامل الأممي مع ما بات يعرف بخلية «حزب الله» المتهمة بتقديم الدعم اللوجيستي إلى المقاومين الفلسطينيين عبر الأراضي المصرية، وما رافق ذلك من تصريحات ركيكة وبائسة وغير حيادية من جانب الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص تيري لارسون المتخصص بالكيدية الفاضحة ضد المقاومة و«حزب الله»، سنكتشف مدى حجم التسييس الذي تتعامل به المنظمات الدولية وما يسمى بالمجتمع الدولي المخطوف غربيا وأميركيا، مع قضايانا العربية والإسلامية.

ثم ألا يحق لنا أن نتساءل: أين الأمم المتحدة ومؤسساتها؟ وأين المجتمع الدولي ومؤسساته وضميره ووجدانه من مطالبات شعوب العالم الحرة كلها وليس فقط العالم العربي، بضرورة محاكمة قادة الكيان الصهيوني العسكريين منهم والسياسيين على ما اقترفوه من مجازر وحروب إبادة للجنس البشري في قطاع غزة خلال حرب الـ22 يوما الجهنمية، كما وصفتها المصادر الغربية نفسها، وليس مصادر الضحية الفلسطينية فحسب؟! ولماذا هذه الازدواجية في المعايير في تشكيل المحاكم الدولية الخاصة؟! ثم ألا يحق لنا بعد فضيحة إطلاق سراح الضباط الأربعة اللبنانيين المتأخر بسبب قلة الحيلة والعجز عن استمرار الاحتجاز، وليس تحمسا لإحقاق العدالة، أن نشكك في كل ما يمت بصلة إلى المؤسسات الدولية وأن نعتبر كل سلوكها نحونا مسيسا بامتياز؟!

ثمة من يذهب إلى أبعد من ذلك وهو يضع كل هذه الوقائع في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية التي تتخبط فيها أميركا ومجموعة القوى الصناعية الكبرى، بعد إفلاس كازينو القمار العالمي، إلى اعتبار النظام العالمي وكأنه بات مصابا بمرض نقص المناعة المكتسبة، بعد أن فقد دفاعاته الحيوية على كل الصعد بما فيها البيئية والصحية، بعد ظاهرة انتشار وباء إنفلونزا الخنازير، ما يجعل العالم الغربي ومن ورائه البشرية جمعاء بحاجة إلى نظام دفاعي جديد، من جنس غير جنس الليبرالية والنيوليبرالية ممزوج بجرعة قوية من الأخلاق.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء