إن سخاء «بيب» المفرط، كان نابعا من تجربته المرة في صباه، عندما عرف- وهو يتيم في كنف أم مكافحة- كيف أن كل قرش يكسبه المرء يمكن أن تكون له قيمة كبرى، وعلى هذا كان يحمل في أعماقه تعاطفا فطريا مع أي إنسان يعاني ضائقة مالية.

Ad

ليس هناك زمان قبيح وزمان جميل، بل هناك إنسان قبيح وإنسان جميل.

الزمان ليس صورة ثابتة. إنه نهر صاف يجري بحياد، مثل المرآة، وهو في جرياته لا يبدي صورته الخاصة، ولكن يعكس صور الناس الذين يمرون به، ويبقى على حياده، على الرغم من إسرافهم في تحميله صفات هذه الصور.

ومن تلك الصور المنعكسة على هذه المرآة، تبدو لنا، من بعيد، صورة عام 1916 حيث تنطبع على جانب منها مشاهد الهول والدمار وإهراق الإنسان لدم أخيه الإنسان، في ذروة الحرب العالمية الأولى.

لكننا، في الوقت نفسه، نشاهد في زاوية قصية من الجانب الآخر فيها وجه فنان في العشرينيات من عمره، يسميه أصدقاؤه (بيب) تحببا، وتعبيرا عن براءة ملامحه الطفولية. كان (بيب) في ذلك الوقت يعمل لدى شركة (فيم كوميدي) لإنتاج الأفلام الصامتة في فلوريدا، وكانت أدواره ثانوية وبسيطة، لكنه ثابر من أجل أن يفوز بأدوار أكبر وأكثر تأثيرا، دون أن ينقطع عن عمله كمغن في أحد المسارح، ليلا، لأنه كان يحب الغناء أكثر من أي شيء آخر.

وقد جمع له عمله المزدوج شعبية كبيرة، كان من نتائجها أن تضاعف راتبه لدى شركة التمثيل، فارتفع دخله بصورة كبيرة. لكنه لم يتردد في إنفاق ذلك الدخل الكبير، أولا بأول، ليس بدافع الإسراف والتبذير، ولكن بدافع سخائه الذي لا حد له، الأمر الذي جعل حتى معارفه العابرين يستغلون طبعه الجميل هذا، فكانوا يقترضون منه المال، على وعد بتسديد القرض في موعد محدد، لكنهم سرعان ما يتناسون، ببساطة، تعهدهم بالسداد، فيما كان هو بسبب من رقة قلبه ورهافة إحساسه، لا يجرؤ، إطلاقا، على تذكيرهم بتلك الديون.

وعلى هذا المنوال كان ينفق الكثير من النقود على الكثير من الديون الميتة، بصورة لم يسبقه إليها أحد، وربما لم يلحقه بها أحد أيضا!

إن سخاء (بيب) المفرط، كان نابعا من تجربته المرة في صباه، عندما عرف- وهو يتيم في كنف أم مكافحة- كيف أن كل قرش يكسبه المرء يمكن أن تكون له قيمة كبرى، وعلى هذا كان يحمل في أعماقه تعاطفا فطريا مع أي إنسان يعاني ضائقة مالية.

كان (بيب) وأغلبية العاملين معه في الشركة يقيمون في فندق «أتلانتك» بمنطقة جاكسونفيل.

وفي أحد الفنادق المجاورة، كان هناك شاب موهوب يعمل في غسل الأطباق، ويؤدي طائفة أخرى من الأعمال التافهة من أجل توفير لقمة العيش.

وذلك الشاب الواقف على حافة الفقر، والذي يحدوه الأمل بدخول عالم الاستعراضات كمغنّ، كان متزوجا حديثا من شابة مغنية أيضا، وكانا يسافران من مكان الى آخر، على دراجة نارية متهالكة، بحثا عن عمل. وكانا، لشدة فقرهما، يضطران كثيرا الى النوم ليلا على مقاعد الحدائق العامة.

عندما سمع (بيب) بحكاية هذا الشاب شعر بصدمة عنيفة تهزه من الأعماق، إذ لم يصدق أبداً أنه يمكن لأي إنسان أن ينحدر إلى وهدة حياة بائسة كهذه.

وعلى الفور، انطلق لدعوة ذلك العامل الشاب وزوجته للإقامة في فندق (أتلانتك)، وأصر على أن يدفع أجرة غرفتهما مقدما لمدة ثلاثة أشهر، وبسرعة غير عادية استطاع أن يجد للشاب عملا جديدا لائقا، ثم وضع في يده خمسين دولاراً (هي ثروة في تلك الأيام) لكي يقضي بها حاجاته الراهنة، ورجاه بشدة ألا يفكر بإعادة المبلغ اليه!

تمتم الشاب المشدوه بانبهار وخجل:

- لكن يا سيدي... إنني يجب أن أرده إليك.

ولما رأى بيب إصرار الشاب على ذلك، قال له بلطف بالغ:

- هناك طريقة واحدة في هذا العالم، يمكنك أن تسدد بها ما أعطيتك إياه: في يوم ما، عندما تجد شخصا أسوأ حالا منك، لا تتردد عن مساعدته. إن ذلك سيكون، بالنسبة لي، سدادا مضاعفا لما أعطيتك إياه!

اغرورقت عينا العامل الشاب بالدموع، وطفق يبكي، وعندئذ بادر (بيب) إلى مغادرة الغرفة بسرعة خاطفة.

إن (بيب) الذي رحل عن الدنيا في عامه الثاني والستين، بعد أن أصبح نجما كبيرا وطبقت شهرته الآفاق، ظل حتى آخر لحظة من حياته محتفظاً بطبعه الجميل هذا، وبوجهه الطفولي البريء، وبروحه الطفولية البريئة نفسها.

وإذا لم يكن في وسعه أن يسخو على جميع البشر من جيبه، فإنه استطاع، بالفعل، أن يسخو عليهم من فنه بهبات وافرة جدا من السعادة والضحك، بقيت تتدفق، من بعده على الناس في كل أنحاء العالم، كالصدقة الجارية.

لم يكن (بيب) هذا غير (أوليفر هاردي) الممثل الكوميدي البدين ذي الوجه الطفولي، الذي أسعد العالم مع زميله (ستان لوريل) بسلسلة أفلامهما الهزلية التي حملت اسم (لوريل وهاردي)!

* شاعر عراقي