كانت ورطة لا يحسد عليها، الشيخ صالح اللحيدان -رئيس مجلس القضاء الأعلى- في إجابته عن سؤال لمستمع في إذاعة القرآن الكريم بالرياض، حول ما أسماه بـ«فتن» الفضائيات في رمضان خصوصاً بين فترتي المغرب والعشاء. فما نصيحة الشيخ للمشاهدين ولأصحاب الفضائيات؟ وكانت نصيحة الشيخ لهؤلاء الذين يبثون «الخناعة والمجون» أو «الفكاهة والضحك»- لاحظ أنه يساوي بين المجون والفكاهة، وكأن ديننا ضد الترويح- أن حذرهم من مغبة ما يبثونه من فتن وشرور ودعوات للفحش والمجون وشكوك وتشكيك تفسد عقائد وتقلب فطراً، وأن أوزار المشاهدين على ملاك الفضائيات. إلى هنا وكلام الشيخ نصيحة مقبولة، لكنه لم يكتف بها وأردف تحذيراً خطيراً لملاك الفضائيات بقوله: «إن من يدعون إلى الفتن إذا قدر على منعه ولم يمتنع، قد يحل قتله» لأن «دعاة الفساد في الاعتقاد أو العمل إذا لم يندفع شرهم بعقوبات دون القتل، جاز قتلهم، قضاء» واستدلالاً بأن الله «لما ذكر قتل النفس، قال «أو فساد في الأرض» لاحظ أن الآية في جريمة الحرابة- فالإنسان يقتل بالنفس أو بالفساد في الأرض» انتهى كلام الشيخ ونام قرير العين لكن زوبعة عريضة وغير متوقعة قامت ضده، إذ استغل خصوم الشيخ ومخالفوه «فتوى قتل ملاك الفضائيات» في شن هجوم واسع ضده، فنشرت «إيلاف» نقلاً عن «أوان» ردود الكتاب السعوديين الذين أجمعوا أن الفتوى مسيئة لسمعة السعودية ولسمعة القضاء السعودي وتناقض كل الجهود الإصلاحية لخادم الحرمين الشريفين في الدعوة إلى التسامح والتعايش والحوار والتعددية، بل تدعم فكر الغلو والتطرف خصوصاً أنها تأتي والسعودية تحتفل بأفراح اليوم الوطني الـ«78» وترفع راية الحوار العالمي، فطالب «تركي الحمد» بمحاكمة الشيخ وعدم الاكتفاء بعزله، وقال الكاتب «خالد الغنامي» إن توضيح الشيخ بأن قصده أن ولي الأمر هو الذي يطبق حد القتل، لا يفيده أمام الإرهابيين الذين يقولون له: فإذا لم يطبق ولي الأمر الحد، أنترك حدود الله تهدر؟!

Ad

وبدوره، رفض الشيخ الإصلاحي عبد المحسن العبيكان الفتوى وحذر من تداعياتها السلبية على الدولة والقضاء السعودي، ودعا العلماء إلى وقفة عاجلة لتدارك الأمر وبين خطأ استدلال الشيخ بآية الحرية في قتل ملاك الفضائيات.

وفي الكويت، قال د. البغدادي: إن قاضي القضاة «توهق» بالفتوى من دون دليل، فتراجع بعض الشيء مقرراً، أن هذا يتم بعد حكم قضائي، وبصراحة إنها حبكت مع الشيخ، لأنه هو نفسه قاضي القضاة، يعني صاحب القناة الفضائية لا محالة. «مقتول، مقتول يا ولدي».

وفي الإمارات أعلن د. أحمد الحداد كبير المفتين رفضه للفتوى، واستغرب تبسيط الشيخ اللحيدان لقتل النفس، واعتبرها من «فتاوى الغلو التي تشجع الدهماء على سفك دماء الأبرياء». أسقط في يد الشيخ وتحت ضغط الهجوم عليه ومخافة أن يستغل طائش فتواه في عمل أحمق، حاول الشيخ تدارك الوضع وظهر في الفضائيات السعودية مدافعاً ليسهب في الحديث عن نفسه ومكانته العلمية والإفتائية، وليقول إنه قصد قنوات السحر والشعوذة والمجون، علماً أن تلك القنوات سبق إلغاؤها من قمري نايل سات وعرب سات قبل عام، وإنه قصد القتل عن طريق القضاء، أما المنافحون عن الشيخ فسلكوا أسلوبين «الأول» تبريري، بالقول إن الشيخ معذور وإن المسؤولية على المحيطين به لأنه لم يبصروه بحقائق الوضع. أو بالقول بأن الفتوى تدخل ضمن «حرية الرأي»!! وهل الدعوة للقتل حرية رأي؟! أما الأسلوب «الثاني» فهو إرهاب الخصوم وردعهم ووصفهم «بالمتطاولين» على العلماء ويجب جلدهم وهو ما لجأ إليه الشيخ «عبدالله الجبرين» بحجة «أن لحوم العلماء مسمومة»، ولكن هل لحوم الليبراليين شيش كباب؟! وأن «انتقاد العلماء لا يحق إلا لمشايخهم وزملائهم» وهذا «كهنوت» لا يعرفه الاسلام و«حجر» على الآراء تأباه مواثيق الحقوق والحريات و«وصاية» ترفضها الدساتير والأنظمة وكل التشريعات و«استعلاء» يجافي روح العصر.

ولنا مع فتوى الشيخ وقفات:

1- نتفق مع الشيخ أن معظم الفضائيات لا بعضها فيها ما يفسد الأخلاق أو يثير الغرائز أو يغيب العقل وينشر الخرافة والشعوذة، وهناك قنوات تدعم الفكر المتطرف لم يذكرها الشيخ، نسياناً أو استحساناً، وقد سبق الشيخ كثيرون انتقدوا الفضائيات منهم سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، مفتي السعودية، والشيخ الفوزان، ووزير الأوقاف المصري الذي وصف دعاة الفضائيات بأنهم «مفسدون» لأنهم يركزون على القضايا الهامشية كالنقاب ويختزلون التدين في المظهر الخارجي، وفي الدوحة عقدت ندوة لمحاكمة الفضائيات «الهدامة» بل إن المشتغلين في ميادين الصحافة والإعلام هم الأشد نقداً وتشريحاً للفضائيات وتأثيراتها السلبية، لكن لا أحد من هؤلاء طالب بقتل ملاك الفضائيات، إدراكاً أن العلاج لا يكون بالقتل، بل بمطالبة السلطات بالتدخل وتفعيل وثيقة الشرف الإعلامي وبتوعية الجماهير وتحصينهم ذاتياً.

2- الفتوى افتقدت أهم أركانها، وهو معرفة حقيقة «الواقعة» المراد إنزال الحكم الشرعي عليها. والواضح من تحميل الشيخ ملاك الفضائيات المسؤولية، أنه لا يدرك طبيعة العمل الإعلامي، ولا العناصر المساهمة في المنتج الإعلامي، فالعمل الإعلامي جهد مشترك يتحمل مسؤوليته، خلق كثير، ولو أردنا تفعيل فتوى الشيخ، لنصبنا المشانق في الطرقات للفنانين والفنانات، كما يجب أن يطول القتل الكتاب والمؤلفين والمصورين والمخرجين والفنيين، فضلاً عن مديري الفضائيات ومقدمي البرامج، بل تمتد السيوف إلى رؤوس علماء الدين أنفسهم، طبقاً لأحمد عبدالملك، بسبب تهافتهم على تلك الفضائيات مع علمهم بما تبثه من مخالفات! أليست مسؤولية الدعاة والمشايخ أعظم من ملاك الفضائيات؟! ثم ماذا عن أصحاب المجلات الفنية والمواقع الإلكترونية المفسدة، هل نقتلهم جميعاً؟!

3- أخطأ الشيخ في توجيه رسالته إلى الملاك، وكان الأجدر به توجيهها إلى السلطات المختصة بالمجال الإعلامي، كان الأولى أن يطالب الجهات المخولة بالرقابة بالتدخل لترشيد ما تبثه تلك الفضائيات، أما الملاك فلن يستمعوا إلى النصيحة لأنهم لا يرون في عملهم «منكراً» ينبغي تغييره، فقنواتهم تمارس عملها في إطار التشريعات السارية.

4- خالف الشيخ بفتواه، آداب وتقاليد درج عليها القضاء الإسلامي، هدفت لتعزيز مكانة القضاء من أن تزلزل في النفوس، ويهون شأنها في نظرهم، وكذلك لحماية القاضي نفسه من القيل والقال والتشكيك، والشيخ اللحيدان وهو قاضي القضاة، بنزوله الساحة الإعلامية وإثارته لتلك الزوبعة عرض نفسه، ومكانته لما لا ينبغي له، كما عرض بسمعة القضاء. القاضي إنما ينحصر عمله في إقامة «العدل» بالفصل في المنازعات وقطع الخصومات، تحقيقاً لطمأنينة المجتمع واستتباب الأمن، وسلامة الناس من التظالم، وليس من عمله، إثارة الخصومات، وإكثار المنازعات، واستعداء المخالفين، لذلك درجت السلطات القضائية في مختلف الدول على النأي بقضاتها من الدخول في قضايا جدلية، حتى لا يصبحوا أطرافا في خصومات فكرية أو سياسية أو فقهية خلافية، لأن القاضي أرفع من أن يكون خصماً وحكماً -معاً- والقاضي بدخوله في نزاع فكري علني، لا يضمن حياده، بعد ذلك، في قضية منظورة أمامه، ويكون من حق الخصوم رده وتنحيته، وفقهاؤنا السابقون قالوا: لا يجوز للقاضي أن يفصل في قضية سبق أن أبدى رأيه فيها، فكيف إذن بمن دعا إلى قتل ملاك الفضائيات؟! هؤلاء لو حوكموا أمام القاضي اللحيدان، فحكمهم لا محالة، كما قال البغدادي «مقتول، مقتول يا ولدي».

5- قول الشيخ إن هدفه «المناصحة» لا يستقيم مع إشهاره السيف، وجدير بمشايخنا إحسان الخطاب والترفق والتلطف، فذلك سبيل الدعوة والإصلاح وتقويم الانحراف، والقضاة من بينهم خاصة، هم الأجدر بالحكمة والموعظة وإحسان الظن.

6- «المجون» و«الفكاهة» لا يستويان، وشيء من الترويح والضحك والفكاهة، ينعش الروح، وينشط الطاقة، ويرفه عن النفس، وهو مطلوب خصوصا في شهر الصيام، وقد كان الرسول «عليه الصلاة والسلام» كما قال أنس رضي الله عنه «أفكه الناس».

7- لا يصح قياس إفساد «الفضائيات» على إفساد «قطاع الطرق» لعدم تحقق العلة الجامعة، فإفساد قطاع الطرق لا يندفع إلا بتنفيذ حد «الحرابة» فيهم، لأنهم سرقوا وقتلوا وأرهبوا، أما إفساد الفضائيات فوسائل دفعه عديدة وليست منها القتل بالضرورة كما أن الإفساد درجات وأشكال، وليس كل صاحب فساد يقتل، وهذا دليل عدم تمكن الشيخ من «أصول الفقه» العدة الأساسية للمفتي.

* كاتب قطري