إلى أين يتجه لبنان؟ 1

نشر في 18-05-2008
آخر تحديث 18-05-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

رغم انعدام الثقة بإسرائيل فعلى لبنان أن يغتنم الفرصة لإعادة بناء دولته واقتصاده وثقافته وحياته العادية، ويتطلب ذلك من وجهة نظر الأغلبية البرلمانية أن يتم إعفاء لبنان من الارتهان بالصراع الدولي والإقليمي بين إيران وسورية من ناحية، والأميركان والإسرائيليين من ناحية ثانية.

يتفق الجميع تقريبا على أن الأزمة الحالية حلقة من سلسلة طويلة من الأزمات وأنها تعكس تصدعات تاريخية في المجتمع اللبناني، ومع ذلك لم يعد هناك تشخيص سهل أو بسيط ومنسجم لطبيعة هذه التصدعات التي تمنع تأسيس إجماع أو تراض قومي حول السلام الأهلي وبناء الدولة وسياساتها أو توجهاتها الكبرى. فالتشخيص التقليدي الذي ينسب المشكلة للطائفية لم يعد سليما تماما. ففي الظاهر على الأقل لم تعد التعبيرات السياسية عن مختلف الطوائف منسجمة، بل امتدت التصدعات داخل الطوائف لتدفع لتشكل تحالفات عابرة للحدود الطائفية، ولا تقتصر هذه الظاهرة على المجتمع المسيحي وحده أو ظاهرة الجنرال عون. فالانقسامات في المجتمع السني أشد وأعمق وهي تقود إلى انقسامات متعددة على المستوى السياسي. بل يمكننا في الواقع أن ننسب الجانب الأساسي في الأزمة الهيكلية على كل المستويات لتصدعات المجتمع السني بذاته. وهناك انقسامات كبرى وإن كانت أقل بروزا، ومع ذلك تكشف ظاهرة اليسار الديمقراطي المنشق عن الحزب الشيوعي اللبناني بشدة عن تيارات تحتية عميقة تنشد تأسيس دولة ديمقراطية وعلمانية وتبتعد كثيرا عن تيار «حزب الله». وخلال الأيام القليلة الماضية ظهر بوضوح ما كان خافيا عن الاعلام وهو العودة للحكمة التقليدية ممثلة في الأمير ارسلان كبديل عن التعبير التقليدي المضطرب ممثلا في وليد جنبلاط الذي لم يعد يحظى بقبول حقيقي من أحد بما في ذلك أكثرية البيوتات الكبيرة في الطائفة الدرزية. وعلى المستوى السياسي هناك بالطبع التناقض حول الموقف من إسرائيل وإيران وسورية، وعلى المستوى الإيديولوجي هناك من يرمي لبناء مجتمع له رسالة (إيديولوجية) ما قومية أو دينية أو طائفية أو سياسية وهناك من يروج للاعتقاد بأن الاعتماد على أميركا وقوى السوق والمهادنة مع كل القوى الإقليمية بما فيها إسرائيل هو «الحالة الطبيعية» لأي مجتمع وكأن من يختلف يتحدى نواميس الكون. وبمعنى معين صارت الأزمة في لبنان أيضا «صراعا طبقيا». وليس من المصادفة أن دعوة النقابات العمالية للإضراب العام مثلت إشارة البدء في الحرب الأهلية من دون أن يكون ذلك مقصودا. بل إن ما وقع سبب فزعا حقيقيا للقيادات العمالية التي سارعت إلى إلغاء الإضراب العام بعد أن ظهرت العلامات الأولى للأزمة.

وبالطبع فالمعنى المجازي وأن الأكثر تأثيرا للصراع الطبقي هو أن بعض الطوائف صارت هي «البروليتاريا» في لبنان وبعضها الآخر تمثل البرجوازية بينما الطبقة الوسطى حائرة بين هاتين «الطبقتين» أو التحالفين الطائفيين. ومع ذلك فالأقرب إلى الواقع هو أن الصراع بين البيوتات الكبيرة والأغلبية الفقيرة يمر ويتقاطع مع مختلف التناقضات الأخرى.

ورغم أن المجتمع ونظام الحكم مازالا طائفيين يبدو لي أن الصراع الحقيقي تحرر جزئيا من الطائفية وصار أوسع وأعمق ويتجسد في تضارب كامل، ويكاد يكون مطلقا بين صورتين للمجتمع اللبناني أو صورتين للمجتمع بشكل عام. ويحيط هذا الصراع بسائر التناقضات الأخرى في الحياة الاجتماعية وليس في المجتمع اللبناني وحده ويتجذر في رؤى الحياة والكون.

هناك صورة للمجتمع تقوم على فكرة العودة إلى الأصل، وهي «الحياة الطبيعية» وصورة أخرى تؤصل ظاهرة المقاومة إلى البذرة الأولى للوجود. الصدام ليس حول مطلقات ولكنه يستدعيها وهو يستدعى أيضا الاعتبارات الضاغطة في الحياة اليومية. فـ«حزب الله» وأنصاره من القوميين واليساريين يرون أن أميركا وإسرائيل لن تكفا عن محاولة الهيمنة على المنطقة وهو ما يفرض استمرار منطق المقاومة وتعبيراتها المادية. أما «تحالف الأكثرية» فيرى أن لبنان دفع غاليا جدا في الصراع ضد إسرائيل، وأنه آن الأوان لأن يعيش اللبنانيون مثلهم كمثل بقية الدول العربية التي لم تقم بدور يذكر في الصراع العربي الإسرائيلي. ويؤكد هؤلاء أن لبنان يحتاج بشدة للعودة للحياة الطبيعية بعد عقود من الصراعات والحروب الاقليمية والأهلية.

واذا تتبعنا أفضل التعبيرات عن هذه القضية في كتابات وأفكار وخطابات أكثر الكتاب اللبنانيين نزاهة كما يلي: لبنان مؤهل الآن أكثر من أي وقت مضى لـ«العودة للحياة الطبيعية» بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 وتوافر أسس قانونية دولية جديدة لتوقف الأعمال العدائية والعسكرية من جانب إسرائيل وبالذات القرار 1701. ورغم انعدام الثقة بإسرائيل فعلى لبنان أن يغتنم الفرصة لإعادة بناء دولته واقتصاده وثقافته وحياته العادية. ويتطلب ذلك من وجهة نظر الأغلبية البرلمانية أن يتم إعفاء لبنان من الارتهان بالصراع الدولي والاقليمي بين إيران وسورية من ناحية، والأميركان والإسرائيليين من ناحية ثانية. ويجب أن يتم تقنين العلاقة بين سورية ولبنان بما يكفل احترام خصوصية العلاقة، ولكن من دون العودة للهيمنة السورية.

ومن ناحية الداخل فالمطلوب هو بناء دولة واحدة تضمن احتكار الاستخدام الشرعي للسلاح ووقف الاستثناء الممنوح لـ«حزب الله» الذي لم يعد- في نظر هذه القوى- مبررا مقابل تحويل «حزب الله» إلى حزب سياسي يأخذ دوره الطبيعي في السياسة اللبنانية، ولكن من دون إمكان إخضاع الدولة للارتهان أو التعطيل الدستوري.

لـ«حزب الله» وأنصاره تفسير آخر هو النقيض المطلق لتلك الصورة، وأفضل تعبير عن هذا التفسير سنجده في كتابات القوميين وبعض قوى اليسار، ويقول هذا التفسير إن المقاومة وتضحيات «حزب الله» هي التي ضمنت الدفاع عن لبنان في وجه أطماع إسرائيلية. وإنه لا يمكن انتزاع لبنان من شبكة الصراعات الاقليمية ليس لأن الأميركيين والإسرائيليين يواصلون أطماعهم في لبنان فحسب، بل أيضا لأن بعض بيوتات وقوى طائفية بعينها تريد تحويل لبنان إلى موقع رئيسي للصراع الإقليمي، ولكن لمصلحة أميركا وإسرائيل. وهنا يظهر زيف فكرة العودة للحياة الطبيعية. فأولا لم يتمتع لبنان أبدا بالحياة الطبيعية على الحدود الشمالية لنظام العدوان الدائم في فلسطين المحتلة. ثم إن العدوان الإسرائيلي لم يتوقف أبدا. وفوق ذلك فالحياة الطبيعية تبدأ بعد أن تتكون دولة طبيعية وليست قائمة على التمييز الطائفي والطبقي، والأهم أن هذه القوى تريد الانتقام وهي تركز على دعوة إسرائيل وأميركا للتدخل السياسي والعسكري، إنها لا تريد سوى سحق المقاومة وليس العيش في ظل «وضع طبيعي».

رغم هذه المبررات لاستمرار الدفاع عن «الحق في المقاومة» فسوف يثبت الواقع فيما اعتقد أهمية «الحياة العادية، فموسم السياحة الصيفية على الأبواب وكل لبنان بفقرائه وأغنيائه يتعيشون على دخل السياحة الصيفية التي ضاعت في صيف 2007 بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان. وتأثر دخل السياحة الصيفية أيضا خلال عام 2007 نظرا لاستمرار الخوف الخليجي واستمرار المشكلات الناجمة عن العدوان الإسرائيلي الإجرامي، خصوصا بالنسبة للبنية الأساسية فضلا عن اشتعال الصراع بين المعارضة والموالاة. وإن ضاع دخل هذا العام سيكون الشعب اللبناني بكل طوائفه قد دفع ضريبة غالية. وأتصور أن «حزب الله» يشعر بضغط هذا العامل وأنه ربما يتجه لإنهاء مبكر للأزمة أو على الأقل لجانبها العسكري وإلا سيكون قد تحمل نتيجة الإفقار واليأس الذي يشعر به شتى اللبنانيون لثالث عام على التوالي.

ولكن القضية الأوسع هي الحياة «السياسية» العادية نفسها! وأعتقد أن هذه القضية تشكل ضغطا سياسيا أكثر قوة وأهمية من موسم أو عشرة مواسم للسياحة!

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام

back to top