لم تكن عملية «الرصاص المنصهر» واسمها الكودي «الثأر المبرر» بنت اليوم، فقد سبقتها أحداث تمهيدية وضرورية وصولاً إلى هذه المجزرة، خصوصاً أن بعض المصادر الإسرائيلية تشير إلى أن أجندة عسكرية مخابراتية واسعة تم وضعها لتحطيم السلطة الفلسطينية واجتياح أراضيها منذ تولي رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون السلطة عام 2001، وعلى الأقل فإن الغزو الراهن لغزة كان قد تم التحضير له في عملية مُخطّطة منذ ستة أشهر على يد وزير الدفاع إيهود باراك، رغم ما لاح من احتمالات التفاوض لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس»، لكن الأمر كان أشبه بتدبير مُبيّت لشن الهجوم باستغلال يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية 4 نوفمبر 2008 وخرق الهدنة والتهدئة التي جرى الحديث عنها طويلاً بخطة طريق أو بدونها، ولعل الهدف الأول كان يتلخص في السعي لتدمير البنية التحتية لقطاع غزة وقتل أكبر عدد من السكان المدنيين.
أما المقدمات لذلك على مدى السنوات السبع والنيّف الماضية فكانت تقوم على ما يلي: الخطوة الأولى محاولة اغتيال الرئيس عرفات بعد عزله ومحاصرته وقد تم ذلك في نوفمبر 2004، علماً بأن مخطط الاغتيال كان موضوعاً على طاولة أجندة الموساد منذ عام 1996، وبعد اتفاقيات أوسلو بثلاث سنوات فقط، وحسب المصادر الإسرائيلية فإن الخطة أُعدّت حتى قبل اتفاقيات أوسلو، ويرجع تاريخها إلى أكتوبر عام 2000، أي قبل مباحثات مدريد- أوسلو، حيث تعتبر الأجهزة الإسرائيلية أن عرفات يشكل تهديداً خطيراً جداً للدولة الإسرائيلية، ولعل القضاء عليه هو أقل ضرراً من بقائه على قيد الحياة.وقد تجدد موضوع اغتيال عرفات عشية التوقيع على أوسلو وأطلعت عليه الولايات المتحدة، التي سعت باستعمال حق الفيتو في مجلس الأمن لمنع أي إدانة لإسرائيل، لاسيما في شهر أغسطس 2003، يوم أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز الحرب على المقاومة الفلسطينية ووصف المقاومين بأنهم يستحقون القتل.وفي منتصف شهر سبتمبر 2003 أصدرت الحكومة الإسرائيلية قراراً للتخلص من الرئيس عرفات، وذلك على صيغة قانون، وقد اعتبره المكتب الإسرائيلي لشؤون الأمن السياسي قرار الخلاص من عرفات لكونه يعيق عملية السلام، وفي حينها هدد موفاز الفلسطينيين وتحدّى العالم أجمع بالقول: نحن سنختار الوسيلة الأسلم والوقت المناسب لقتل عرفات. ولم يكن عرفات بالطبع وحده هو المقصود، وإنما كانت السلطة الفلسطينيية والبنية التحتية في الضفة الغربية وقظاع غزة.وتنفيذاً لذلك بدأ مدير الموساد مائير دوغان بوضع الخطة التفصيلية للتخلص من عرفات عام 2001، تلك الخطة التي تم تنفيذها لاحقاً، ولعل الهدف كان واضحاً ويستهدف ضعضعة وخلخلة السلطة الفلسطينية ونشر الانقسامات بين «فتح» نفسها، وبينها وبين «حماس»، لاسيما بغياب شخصية عرفات الكاريزمية.أما الخطوة الثانية فقد اتجهت إلى تفكيك عدد من المستوطنات اليهودية في قطاع غزة تحت إشراف رئيس الوزراء أرييل شارون في عام 2005، حيث تم إخلاء حوالي سبعة آلاف مستوطن تم توزيعهم على مناطق أخرى لتوطينهم، وقال شارون في حينها إن عملية إعادة التوطين للمستوطنات التي تسبب لنا بعض المشاكل وكذلك في المناطق، لن تشمل أي استيطان في اتفاق نهائي مثل مستوطنات غزة، الأمر الذي أوضحه بالقول في مقابلة مع الـ CBC في مارس 2004: أنا أعمل على فكرة أنه لن يكون هنا في المستقبل يهود في غزة، وكان ذلك بمنزلة خارطة طريق بالاتفاق مع واشنطن التي أعدّتها، الأمر الذي أشاع جواً من التفاؤل الفلسطيني الساذج لدرجة بالغ بها البعض معتبرها انتصاراً، في حين أن تفكيك مستوطنات غزة لم يكن موجهاً ضد المستوطنين اليهود، بقدر ما كان جزءًا من مخطط شامل يستهدف تحويل غزة إلى معسكر اعتقال، إذ إن وجود يهود «مستوطنين» يعيشون في غزة سيحول دون إمكان تحويلها إلى سجن كبير أو قفص يمكن فيه اصطياد الفلسطينيين بسهولة.إن إجلاء المستوطنين اليهود عن غزة وتفكيك المستوطنات وتوزيع المستوطنين على مناطق أخرى، أمر اتضحت أهدافه لاحقاً، وهو ما كانت تتطلبه عملية «الرصاص المنصهر»، فقد كان لابدّ من تفكيك المستوطنات الإسرائيلية وإزالتها لكي يمكن وضع اليد على غزة بكاملها، وقد ترافق ذلك التمهيد مع بناء جدار الفصل العنصري الذي تقرر بوصول أرييل شارون إلى السلطة، ورغم صدور فتوى استشارية من محكمة العدل الدولية بخصوص عدم شرعيته وتعارضه مع قواعد القانون الإنساني واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، فإن إسرائيل لاتزال تتحدى المجتمع الدولي، خصوصاً وقد وضعت لنفسها هدفاً بعيد المدى ظهرت علاقته بخطة دوغان «الرصاص المنصهر» أو «الثأر المبرر».وبخصوص الخطوة الثالثة، فقد شجعت الأجهزة المخابراتية الإسرائيلية على تنفيذ عملية «الرصاص المنصهر»، بعد فوز «حماس» في انتخابات يناير 2006، خصوصاً بغياب ياسر عرفات، ولعل غياب الشخصية الكارزمية كان له دوره في خسارة «فتح» للانتخابات وفوز «حماس»، الأمر الذي استثمرته إسرائيل باعتبار الأخيرة منظمة إرهابية كما تدعي، فلجأت بعد الضغط والمحاصرة إلى سياسة «الكانتونات» والتفتيت وصولاً إلى تنفيذ خطة دوغان مع بقاء حكومة بقيادة «فتح» في الضفة الغربية واستمرار حصار غزة، وقد دخلت القوات الإسرائيلية غزة بعد عمليات برية وقصف ثقيل ومتواصل.وحتى الآن يبدو أن خطة أولمرت قد تم تنفيذها استمراراً لخطة شارون، وقد عبّر إيهود باراك عن ذلك بالقول، إن الخطة لن تكون سهلة والعمليات العسكرية لن تكون قصيرة، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأن خطة أولمرت الجديدة وشارون القديمة وفي إطار تنفيذ دوغان- باراك، وضعت أهدافها الاستراتيجية موضع التنفيذ والاختيار، لاسيما باستهداف تحطيم البنية التحتية لقطاع غزة وتدمير الحياة المدنية وتهجير السكان الفلسطينيين، وهو نموذج عام 1948 الذي توخاه شارون، وزاد عليه تصريحاً في وقت سابق، حين تحدث عن ضرورة إيجاد دولة أخرى للفلسطينيين (أي خارج الضفة والقطاع) وأن دولتهم هي في الأردن.ورغم مرور أسابيع على عملية «الرصاص المنصهر» و«الثأر المبرر»، فإنها على ما يبدو حتى الآن لم تحقق أهدافها رغم الدمار الكبير، حيث إن حسابات الحقل لم تنطبق مع حسابات البيدر، فالمقاومة والصمود هما الرقمان الصعبان في مواجهة خطة أولمرت- شارون!* كاتب ومفكر عربي
مقالات
غزة من شارون إلى أولمرت: حسابات الحقل والبيدر!
16-01-2009