الأزمة المالية... وتكهنات ساذجة
غداة الانهيار المالي الكبير وبمناسبته، انبرى رهط من معلقينا ومحللينا وجمهرة مفكرينا ينعى الرأسمالية، برمتها وبقضها وقضيضها، يتوقع زوالها زوالا وشيكا يستأصل شأفتها وشأفة الولايات المتحدة، رمزها وحاملة لوائها، وذهب بعض من ذلك الرهط إلى نفض الغبار عن «يوتوبيات» قديمة، اعتبرها بديلة، فاشتط منه من اشتطّ حتى دعا العالم إلى الاقتداء بسياسة الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وذلك مما لا يعنينا أمره هنا، ولاذ آخرون ببقايا «حسّ سليمٍ»، إن قورنوا بأصحاب تلك الدعوة، فاكتفوا باستحضار ماض أقرب، أو «مستقبل ماض»، إن جازت العبارة، أو أضحى ماضيا، هو ذلك الذي مثلته وبشرت به الاشتراكية، خصوصا تلك «العلمية» منها، على ما كان، ولا يزال على ما يبدو، يزعم الماركسيون.لن نخوض هنا في سجال ضد هذا الرأي الأخير وذلك الضرب من الاشتراكية، فقد أُشبعا نقدا ودحضا، خصوصا ما صدر منهما عن التاريخ الذي أبطلهما على النحو الأجلى والأبلغ ذات جدارٍ (ذلك الذي كان قائما في قلب برلين) أزيل وذات معسكرٍ (ذلك السوفييتي) تلاشى. وشأن الخائض في ذلك النقد الآن، كشأن من «يجدف في حق الإله ثور (وهو من آلهة الميثولوجيا الإسكندنافية)»، لا معنى له ولا جدوى منه ولا يحرّك ساكن أحدٍ، على ما لاحظ مرة الكاتب البريطاني تشسترتن، في معرض تأكيده أن النيْل، الذي يُستشعر نيلا، من معتقد من المعتقدات، لا يتحقق إلا إن كان المُعتقد المستهدَف متمكّنا بالغ الحضور حيّا.
غير أن أمرا يحض، مع ذلك، على التوقف عند ذلك الرهط المشار إليه، هو المتمثل في مقارنة موقفه ذاك الآسف على الاشتراكية الحالم باستعادتها، بموقف قوى، لاتزال، شأن الصين، تدين بالشيوعية رسميا، تحكم باسمها ما يزيد على سدس البشرية، حققت بواسطتها، أو من دون التخلي عنها، باهر الإنجازات، نموا اقتصاديا، رأسمالي الوجهة بلا لُبس، استثنائي الوتائر، وسطوةً سياسية متعاظمة. إذ لم تبدِ تلك القوة الكبرى والشيوعية، على العكس من بعض كتبتنا الذين لا «يمونون» على التاريخ في شيء، شماتة بالرأسمالية بعد كارثتها المالية الأخيرة ولا استعجلت نهايتها ولا بشرت بها، مع أن الإيديولوجيا التي تأخذ بها من شأنها أن تزيّن لها ذلك، بل نحَت منحى التعاون، مساهمة بجهدها في إقالة الاقتصاد العالمي من عثرته المالية تلك... ربما عاد ذلك الفارق في السلوك وفي المواقف إلى تباين المواقع، بين ناظر إلى العالم وإلى شؤونه من خارجها، يتناولها بمقياس الضغينة وبعينيْها، وبين ضالع في ذلك العالم وفي تلك الشؤون فاعل فيها.ولكن القول بذلك والاكتفاء به قد يفي باستراتيجيةِ وخَطابةِ سجال، ولكنه قد لا يستوي تفسيرا، أو هو إن فعل فَعلى نحو جزئي. أما ما قد يُعتدّ به من التعليلات، فقد ينبني على ملاحظة أن الدول، الصين وفيتنام وسواهما من البلدان، التي لاتزال تحكمها أحزاب شيوعية ولكنها انتقلت إلى الأخذ بالاقتصاد الرأسمالي، إنما استخلصت من نهاية الحرب الباردة ومن انهيار الشيوعية في معاقلها السوفييتية والأوروبية ما عجز عن استخلاصه أولئك الداعون إلى عودة الاشتراكية بين ظهرانينا، من أن الإيديولوجيا تلك انتهت كإيديولوجيا شمولية. الاستخلاص ذاك ظل ضمنيا، إذ ما كان يمكن لأنظمة استمرت تحكم باسم العقيدة الشيوعية أن تجهر به، ولكنه تحقق عمليّا، طالما أنه أفضى إلى استثناء قطاع حيوي من قطاعات الحياة العامة والمجتمع، هو ذلك الاقتصادي، وهو ما هو في الشيوعية، يقع منها في موقع اللب ويمثل آية تمايزها الفارق، إن معرفيا وإن كخطاب إيديولوجي، وأفعل أدوات تسويغها. ولأن للجانب الاقتصادي أهميته تلك في النظرة الشيوعية، فإن إقبال أنظمة تحكم باسم تلك الإيديولوجيا على توخي اقتصاد السوق، وإن تحايلت على ذلك الأمر لفظيا فلفّقت ما أطلقت عليه بـ«اقتصاد السوق الاشتراكي»، إنما يمثل تجاوزا أكيدا للشيوعية، صحيح أنه أقل راديكالية من ذلك الذي شهدته روسيا وبلدان شرق أوروبا ووسطها، ذلك الذي بلغ مبلغ النسف والإلغاء، إلا أن ذلك التجاوز الآسيوي للشيوعية حاسمٌ بدوره جابٌّ لها على نحو لا لبس فيه، وإن وفق منحى خاص ومقاربة متميزة، لم تفض إلى إرساء الديمقراطية.إذ إن ما فعلته تلك الأنظمة التي لاتزال شيوعية اسما، أنها انتقلت من التوتاليتارية إلى الاستبداد، فوظفت نفس الإيديولوجيا في نسقين متباينين أو على قدر من تباين لا يُستهان به. ذلك أن هنالك فارقا، قد لا تدركه العيْن غير الخبيرة لكن الفكر السياسي حاسم بشأنه، بين نظام توتاليتاري، يسعى إلى التطابق تطابقا تاما مع المجتمع، يُلحق كل مناحيه ويخضعها إلى نظرة السلطة، وبين نظام استبدادي، «يقنع» بالاستحواذ على السلطة وبالانفراد بها، وقد يتعايش مع حريات أخرى (شأن حرية السوق)، ما لم تكن سياسية. بهذا المعنى، فإن كل نظام توتاليتاري استبدادي ولكن ليس كل نظام استبدادي بالتوتاليتاري.والأرجح أن ذلك ما يمثل بعض التحولات الأهم التي انجرّت عن نهاية الحرب الباردة وعن الانهيار الشيوعي، والتي يبدو أن إمبراطورية «شيوعية» كتلك الصينية قد أدركتها، وغابت عن أذهان بعض نخبنا الرثة، تلك التي لاتزال تحلم بأن تؤدي مصاعب الرأسمالية إلى العودة إلى الاشتراكية.* كاتب تونسي