استقلالٌ لايزال بالـزَّاف!
حلَّت يوم السبت الماضي الذكرى العشرون لإعلان الاستقلال الفلسطيني، إذ كان وقف الرئيس الراحل ياسر عرفات في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988 أمام المئات مـن الصحافيين و«كاميرات» التصوير ليتلو بياناً كان عبارة عن قطعة أدبية جميلة أعلن فيه قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في إطار الموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي كان صدر بعد حرب يونيو عام 1967 التي احتلت فيها إسرائيل باقي ما تبقى من فلسطين التاريخية، بالإضافة الى سيناء كلها حتى قناة السويس وهضبة الجولان السورية. قبل ذلك الإعلان كانت المفاوضات السرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد قطعت شوطاً طويلاً، وكانت اللقاءات العلنية التي شهدتها تونس بين بعض قادة منظمة التحرير والسفير الأميركي في العاصمة التونسية قد حققت بعض التقدم، وهذا كله جعل أنه لابد من إعلان «الاستقلال الفلسطيني» في رزمة كاملة تتضمن موافقة المجلس الوطني في دورته تلك، التي أُطلق عليها اسم: «دورة الشهيد أبو جهاد»، على قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي ينص على الاعتراف بالدولة الإسرائيلية في حدود ما قبل حرب يونيو عام 1967.
في الليلة التي سبقت يوم «الإعلان» كانت هناك جلسة طويلة استمرت من ساعات المساء المبكرة حتى ساعات الفجر المتأخرة كان فرسانها ثلاثة جميعهم رحلوا عن هذه الدنيا الفانية هم: ياسر عرفات (أبو عمار) وصلاح خلف (أبو إياد) والدكتور جورج حبش (الحكيم)، وكان النقاش طويلاً ومسهباً ولكنه لم يكن مملاً لأن ما قيل فيه في هيئة مرافعات سياسية كان يُطرح للمرة الأولى على الفلسطينيين في دورات مجلسهم الوطني، فالاعتراف بإسرائيل ربما كان راود كثيرين من قادة منظمة التحرير لكنه لم يُقل بصراحة ووضوح إلا في هذه المرة. كان الرقم الصعب الذي لابد من ترويضه في تلك الليلة المضنية الطويلة هو الدكتور جورج حبش، الذي كان الاعتراف بإسرائيل بالنسبة إليه غير وارد، والذي كان مع رفيق دربه الدكتور وديع حداد قد أعطى حركة القوميين العرب، التي كان من رموزها الأوائل من الكويت الدكتور أحمد الخطيب، شعار: «وحدة تحرر ثار دم حديد نار»، وبقي قبل ان يبتلع «الماركسية» تماشياً مع مقتضيات المرحلة مخلصاً لهذا الشعار، وهو بقي مخلصاً له في حقيقة الأمر حتى وفاته رحمه الله. في تلك الليلة الطويلة كان صلاح خلف (أبو إياد) هو الذي تولـَّى مهمة «ترويض» الدكتور جورج حبش وحقيقة أنه، وباعتراف جميع الذين استمعوا إليه بقلوبهم وجوارحهم قبل آذانهم، كان مقنعاً ومبدعاً والى حد ان «الحكيم» لم يتمالك نفسه، إزاء ما بقي يسمعه باندهاش وانتباه شديد، فأجهش بالبكاء في ما يشبه النحيب أكثر من مرة.لقد كانت لحظات تلاوة بيان «الاستقلال»، الذي تلاه أبو عمار تحت قبة قاعة اجتماعات قصر الصنوبر في منطقة سيدي فرج على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في الجزائر، لحظات عواطف جياشة ولحظات أحلام وردية لم تتبدد إلا بعد خروج الذين استمعوا إليه من قاعة الاجتماعات ليدركوا الحقيقة المرة، ففلسطين تبعد عنهم وعن بيانهم آلاف الأميال واستقلالها لايزال «بالـزَّاف»، كما علق أحد كبار المسؤولين الجزائريين الذين كانوا عاشوا مع أشقائهم الفلسطينيين تلك اللحظات الوجدانية الجميلة... وهذا يتأكد الآن بينما الحالة الفلسطينية هي هذه الحالة المحبطة. * كاتب وسياسي أردني