Ad

لم يعد من العيب أن يتلقى بعض الموظفين أموالاً مقابل عمل روتيني، هو من صميم واجباته أصلاً، ولم يعد المرتشي أو اللص منبوذاً من المجتمع كما كان في السابق بل صار «صايدها»، لأنه لم ينكشف أمره.

نقلت صحيفة «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي عن صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً عن خطة للرئيس الروسي الجديد ديمتري ميدفيديف لمحاربة الفساد في بلاده بعد أن ضرب أطنابه، إلى درجة أن وصلت المبالغ التي تدفع كرشاوى لمسؤولين حكوميين إلى 120 مليار دولار سنوياً، بينما قدرت منظمات أخرى أن حجم ما يدفعه المواطنون الروس سنوياً كرشاوى (لموظفي الدولة وغيرهم) يبلغ 319 مليار دولار!.

هذه الأرقام الفلكية أجبرت الرئيس ميدفيديف على دق ناقوس الخطر- حسب التقرير- ليعلن تقديمه خطة متكاملة للقضاء على الفساد سيتم إعلانها بحلول أكتوبر المقبل «إقبض عاد». ولعل ما أوصل الفساد في روسيا إلى مراحله الفلكية هذه هو عجز الرؤساء الروس المتعاقبين، أو تلكؤهم، في لجمه إلى درجة جعلته مصدراً لمعاناة دائمة للروس كافة بمَن فيهم المرتشون الذين يضطرون لدفع الرشاوى أيضاً، لدرجة أن إدخال طفل إلى الروضة يتطلب دفع 150 دولاراً على الرغم من كونها حكومية مجانية، بينما يدفع آخرون 4000 دولار لأخذ وثيقة تثبت تملكهم لعقار يملكونه أصلاً، ويدفع غيرهم مبالغ منتظمة لبعض المفتشين الحكوميين لمنع ملاحقتهم و«تنغيص» عيشتهم.

وفي مكان آخر، جنوب موسكو... بكثير، وعلى ضفاف الخليج العربي الساحر... تقع دولة الكويت، إذ يضطر المواطن لدفع مبلغ من المال كرشوة ليحصل على موافقة الدولة لبناء دور في بيته، رغم أن المعاملة قانونية، ويضطر آخر لتوزيع كروت تعبئة الهواتف أو حتى أجهزة هواتف جديدة لينهي معاملة استخراج بضاعة قانونية من الميناء. أما إن كان لديك عمل تجاري وترغب في زيادة عدد العاملين لديك، خصوصاً أن الوزارة خصصت لك عدداً أقل بكثير من حاجتك الفعلية، فما عليك إلا دفع 500 دينار، ليس قيمة لطوابع أو رسوم، بل لتسير أمورك بكل سهولة ويسر، بل إن بعضهم يضطر إلى دفع 200 دينار حتى لا «يختفي» أو يضيع ملف قضيته ويضمن سلامة سير الإجراءات. ولا يقتصر الأمر على المواطنين، فللوافدين نصيب إذ ما على الوافد إلا أن يدفع 80 ديناراً لاستثنائه من الشروط التي تمنع حصول الوافد على رخصة قيادة... وغير هذا من الأمثلة الكثير.

إن خوفي اليوم هو خوف ميدفيديف على بلاده- باعتبار خوفه «ولد أوادم» ونابع من حرص. ففي الكويت لا نجد خطة للقضاء على الفساد، وهي كلمة أصبح حتى تكرارها مملاً، فالخطة لا تتعدى تصريحات المسؤولين والنواب، ولم نتحرك حتى الآن لإنشاء هيئة لمكافحة الفساد، وهي هيئة موجودة في اليمن والأردن وغيرهما من دول المنطقة، وباتت الكويت ملزمة بإنشائها بعد تصديقها على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد.

وللأسف فإننا نرى قوانين «مكياجية» أخرى تتصدر اهتمامات السياسيين كقانون إشهار الذمة المالية للقياديين في الدولة، وهو قانون- وإن كان مطلوباً- لا يلبي الطموح كله، إذ إن كشف الذمة المالية للقياديين والنواب وغيرهم يعد أداة من أدوات مكافحة الفساد وليس كله. وبخلاف ذلك، فلا نرى تحركات جدية ومؤسسية لمكافحة الفساد الذي بات ثقافة مقبولة لدى بعضهم، فلم يعد من العيب أن يتلقى بعض الموظفين أموالاً مقابل عمل روتيني، هو من صميم واجباته أصلاً، ولم يعد المرتشي أو اللص منبوذاً من المجتمع كما كان في السابق بل صار «صايدها»، لأنه لم ينكشف أمره. وبات أن تدفع أموالاً مقابل معاملة حكومية بسيطة أمراً عادياً إلا إذا وجدت الواسطة، فهي التي تستبدل طابع «بو 500 دينار» بآخر من فئة «بو دينار» لتمشي أمورك من دون أي مشاكل.