بينما يكافح العالم واحدة من أشد الأزمات المالية خطورة منذ عصر ما بعد الحرب، يتركز الانتباه على اقتصاد الأسواق المتقدمة والناشئة المتأثرة بصورة مباشرة بالأزمة. ولكن التأثير الذي ستخلفه هذه الأزمة على البلدان الفقيرة سيكون أشد وطأة.
إن ضعف النمو العالمي يعمل على انكماش أسواق التصدير، ولقد أدى هذا إلى هبوط حاد في أسعار العديد من السلع الأساسية. وهذه التركيبة التي تتألف من تشديد شروط الائتمان في البلدان المتقدمة اقتصادياً والتوقعات الاقتصادية الهزيلة في البلدان ذات الدخول المتدنية تؤثر سلباً على تدفقات الاستثمار. فضلاً عن ذلك فإن تحويلات العاملين، التي تفوق في حجمها حالياً المساعدات الخارجية باعتبارها المصدر الأضخم للتدفقات المالية على البلدان ذات الدخول المتدنية، أصبحت في طريقها نحو التضاؤل الشديد. إن البلدان الإفريقية الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى تعتمد إلى حد كبير على صادراتها من السلع الأساسية، وعلى هذا فهي معرضة بصورة خاصة للآثار السلبية المترتبة على دورة الانحدار الاقتصادي العالمي. لقد نجح عدد كبير من بلدان إفريقيا في استغلال ازدهار العقد الماضي لتبني السياسات الاقتصادية السليمة القادرة على الاستمرار والتي أسفرت عن النمو القوي وانخفاض معدلات التضخم. وإلى جانب الإعفاء من الديون، أدت هذه السياسات إلى انخفاض مستويات الديون العامة، وانتهاج سياسات مالية سليمة نسبياً، وفي المقام الأول من الأهمية ارتفاع مستويات المعيشة. والآن أصبحت هذه المكتسبات عُرضة للخطر. إذ تسبب ارتفاع أسعار الغذاء والوقود الذي ساد حتى وقت قريب في تكبيد الأنظمة المالية في العديد من بلدان إفريقيا خسائر ثقيلة. والآن أصبحت هذه البلدان عُرضة لتلقي ضربة ثانية بسبب الركود العالمي. الآن لابد أن تكون الأولوية بالنسبة لإفريقيا والمجتمع الدولي لضمان تغلب القارة على العاصفة المالية العالمية، وقدرتها على حماية المنجزات الكبيرة التي حققتها أثناء العقد الماضي، والاستمرار في إحراز تقدم حاسم فيما يتصل بمكافحة الفقر. ولا شك أن هذا ليس بالوقت الذي يجوز لنا فيه أن نأخذ استراحة من بذل الجهود الرامية إلى تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية. وستكون كيفية مساعدة إفريقيا في مواجهة هذه التحديات- بما في ذلك التعلم من دروس نجاحات الماضي- هدفاً صريحاً لمؤتمر رئيسي سيعقد تحت رعاية صندوق النقد الدولي ورئيس تنزانيا جاكايا كيكويتي، والذي من المقرر أن تستضيفه دار السلام في شهر مارس المقبل. وهذه المناقشة لآفاق إفريقيا لن يشارك فيها صناع القرار السياسي الرسميون فحسب، بل وأيضاً ممثلو القطاع الخاص والمجتمع المدني، الذين يلعبون دوراً رئيسياً في هذا السياق، كما ندرك جميعاً. من الواضح أن المسؤولية عن تنفيذ سياسات اقتصادية سليمة تقع على عاتق البلدان الإفريقية نفسها. ولكن يتعين على المجتمع الدولي أن يقف على أهبة الاستعداد لتقديم يد المساعدة. وفي اعتقادي أن تبني سياسات قوية من جانب البلدان الإفريقية، إلى جانب الدعم القوي من المجتمع الدولي، يوفر أفضل فرص النمو المستدام وتقليص الفقر في إفريقيا. وهنا تبرز ثلاث أولويات يتعين علينا أن نسترشد بها: • أولاً، في حين قد يكون المجال متاحاً لتوفير الحوافز المالية في بعض البلدان، إلا أن ذلك المجال محدود في العديد من البلدان غيرها؛ وعلى هذا فيتعين على المنطقة بالكامل أن تعمل على حماية مستويات الدين العام المنخفضة والتي حققتها بشق الأنفس. وبعد أن تمر العاصفة فستشكل مستويات الديون العامة المنخفضة وسبل التمويل العام المستدامة أهمية حاسمة فيما يتصل بالحفاظ على معدلات الإنفاق الكافية لمساعدة الفقراء على العودة إلى اجتذاب المستثمرين الدوليين الذين لا غنى عنهم لنمو إفريقيا في المستقبل؛ • ثانياً، تشكل الأسعار الدولية المنخفضة فرصة لإعادة التضخم إلى مستوياته السابقة بعد المستويات المرتفعة المزعجة التي بلغها نتيجة لأزمة أسعار الغذاء والوقود في مطلع العام الماضي. وهذا لا يعني فرض أهداف صارمة فيما يتصل بمعدلات التضخم المسموح بها، بل يعني تبني سياسة نقدية يمكن التنبؤ بها وتهدف إلى تحقيق استقرار الأسعار على المدى المتوسط- إلى جانب تبني أسعار صرف مرنة كلما كان ذلك ممكناً- بحيث تتحقق الاستفادة للقطاع الخاص، والفقراء في المقام الأول من الأهمية. • ثالثاً، يتعين على المجتمع الدولي أن يلتزم بتعهداته فيما يتصل بزيادة حجم المساعدات. وهذا ليس بالوقت المناسب أبداً للتراجع عن تلك الالتزامات. ومن المهم بالقدر نفسه أن نستأنف محادثات التجارة العالمية وأن نصل بجولة الدوحة إلى نهاية ناجحة، خصوصا من أجل حماية إفريقيا من خطر تزايد النزوع إلى الحماية. إن صندوق النقد الدولي على استعداد للقيام بدوره. ونحن نعمل عن كثب مع البلدان الأعضاء الثلاثة والخمسين من إفريقيا على صياغة الاستجابات السياسية الملائمة. ولقد عملنا على زيادة تمويلنا للبلدان الأشد تأثراً بصدمات نقص الغذاء والوقود. ونحن نستعد أيضاً لتقديم الدعم الإضافي- بما في ذلك تبني آليات مالية جديدة في التعامل مع البلدان التي ضربتها الصدمات الخارجية- لمساعدة هؤلاء الأشد تأثراً بالأزمة المالية العالمية. كما نعكف الآن على زيادة مساعداتنا الفنية لتعزيز عملية اتخاذ القرار الاقتصادي في إفريقيا، وفتح مركزين إقليميين جديدين لتقديم المساعدات الفنية. وفي إطار المؤتمر الذي سيعقد في تنزانيا، نتطلع إلى تلقي الردود والأفكار بشأن الكيفية التي يستطيع بها صندوق النقد الدولي أن يقدم المزيد وبشكل مختلف. وبينما تبحر إفريقيا ومعها شركاؤها عبر الأزمة المالية، يتعين علينا ألا ننسى البلدان الأكثر ضعفاً. ويتعين علينا أيضاً أن نضمن مناقشة الحلول المطروحة مع كل البلدان المعنية لتعزيز الاستقرار المالي وتجنب الاضطرابات في المستقبل، وبالطبع ستكون هذه الغاية محل تركيز قمة مجموعة العشرين التي ستنعقد في شهر إبريل المقبل. إن الأنظار كلها موجهة الآن نحو الأزمة الحالية. ولكن يتعين علينا ألا يغيب عن بصرنا التحديات الأطول أمداً والتي ستظل قائمة حتى بعد مرور العاصفة. وسيسمح لنا مؤتمر تنزانيا بتقييم ما تعلمناه من نجاحات الماضي، فضلاً عن التعرف عما نحتاج إلى تغييره في المستقبل. إن هدفنا المشترك واضح: وهو يتلخص في ضمان تغلب إفريقيا على العاصفة الحالية، بل خروجها من العاصفة وقد أصبحت أكثر قوة. * المدير الإداري لصندوق النقد الدولي. «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات - زوايا ورؤى
العاصفة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى
08-02-2009