بين الصحافي والسياسي
«لا أحبك... ولا أقدر على بُعدك»؛ تلك هي المقولة التي تلخص المعادلة الأزلية بين السياسي والصحافي في عالمنا العربي وفي مناطق العالم المختلفة. يريد الصحافي من السياسي المعلومات والوثائق والصور، ويريد السياسي من الصحافي الترويج لسياساته والدفاع عن مواقفه والكف عن انتقاده. وإذ ينشأ تضارب المصالح، في دولة لا تحترم القانون وتصونه؛ يدخل الاثنان في نفق من عدم التفاهم، قد ينتج آثاراً لا تحمد عقباها؛ بعضها ينتهي بالصحافة أليفة محنطة منتهية الصلاحية معدومة القيمة، وبعضها ينتهي بالصحافي في السجن أو المنفى، حيث الجمهور الخاسر الأكبر ومعه البلد وقضاياه المهمة.قبل أكثر من 70 عاماً، وتحديداً في يناير 1938، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» خدمتها العربية، كتعبير إعلامي مسموع يستهدف العالم العربي. لم يكن المدير العام للهيئة لورد ريث حينذاك مؤمناً بالفكرة؛ إذ كان يخشى على استقلالية الإذاعة، وحيادها الذي تعتبره أهم ما تملك. على أي حال، انطلقت الخدمة، وذهب السفير البريطاني في المملكة العربية السعودية إلى خيمة الملك عبد العزيز، ليسمع معه أول نشرة أخبار باللغة العربية من «بي بي سي». لكن الحاضرين بهتوا جميعاً عند سماع الخبر الثالث؛ إذ كان نص الخبر كما يلي: «تم شنق عربي من فلسطين بناء على أمر من محكمة عسكرية بريطانية، إثر ضبطه وبحوزته أسلحة وذخائر...».
يعلق السفير البريطاني على الموقف داخل خيمة الملك في خطاب أرسله إلى مسؤولي وزارته في لندن، قائلاً: «صمتنا جميعاً داخل الخيمة، وتفرق جمعنا من دون النطق بأي كلمة». الملك عبد العزيز أبلغ البريطانيين استياءه الشديد، وعلق قائلاً للسفير البريطاني: «كحاكم، أتفهم أن أولى مهمات الحكومة هي الحفاظ على النظام، لكن هذا الفلسطيني لم يكن ليعدم لو لم تكن السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية وراء ذلك».شعرت الخارجية البريطانية بإحراج شديد، وأحس المسؤولون أن «بي بي سي» ليست فقط لا تساعدهم في عملهم في المنطقة، لكنهم شعروا أيضاً انها ربما «تعوق عملهم وتضر به»، وهو ما دفع سياسي في الوزارة إلى الكتابة معلقاً: «هل يجب على الهيئة أن تذيع خبر إعدام كل عربي... هذا غير ضروري بالمرة». يعتقد السياسي عادة أنه يعمل من أجل أغراض سامية وعظيمة، وأن ثمة شخصاً متطفلاً يقال له «صحافي» يسعى إلى الإضرار بهذا العمل. ليت الأمر يقتصر على ذلك؛ إذ يعتقد السياسي أحياناً أن الإشكال يحدث حين تنشر وسائل الإعلام الأخبار عن المشكلات والاعتوارات ومواطن الخلل، بينما يرى أن الاعتوار نفسه ليس مشكلة في حد ذاته.في السادس من يوليو الجاري، التقى رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي رؤساء تحرير الصحف الكويتية، في أجواء الحديث عن وثيقة حكومية تستهدف كبح جماح حرية الصحافة، حيث انتقد «دور الصحافة في إثارة بعض القضايا أخيراً». يقول الخرافي : إن بعض ما نشر أخيراً «لم يكن فيه مصلحة وفائدة»، وإن رؤساء التحرير «يجب ألا ينشروا كلام مَن يخرج عن أدب الحوار»، لأن «مصلحة الديرة أهم من بلاغة الشف». يريد رئيس البرلمان من الصحافة ألا تنشر كلاماً قاله ممثلو الشعب تحت قبة برلمانه إذا كان «خارجاً على أدب الحوار»، كما يريد من رؤساء تحرير الصحف ألا يثيروا بعض القضايا «لأنها لا تصب في مصلحة الديرة»؛ وهو الأمر ذاته الذي حاولت الخارجية البريطانية فعله مع «بي بي سي» قبل أكثر من 70 عاماً.أطلقت الدولة البريطانية محطة «الشرق الأدنى»، لتستخدمها كوسيلة موجهة تروج لسياساتها في المنطقة، فقاطعها الجمهور والمذيعون والصحافيون، وأغلقت. لكن «بي بي سي» ظلت متقدمة ومتألقة تمارس عملها وفق رؤيتها المهنية بعيدة عن سيطرة السياسي و«نزقه». وهكذا فعلت وسائل إعلام غربية عديدة، فكرّست أسماءها وبنت سمعتها على اعتبار أنها تمارس عملها بالطريقة التي ترتضيها، ومن دون أن تخضع بالضرورة لاعتبارات السياسي ومحاذيره. يريد السياسي من الصحافي أن يعمل عنده... تابعاً محدود القيمة. يحدد له القضايا التي يجب أن يتحدث بها، وتلك التي يجب أن يتجاهلها، «لأنها تضر بمصلحة الوطن»، وأن يصنع له الصورة اللامعة البراقة من دون أي نقد أو جدل، وأن يصوغ عباراته وفق ما يعتقد السياسي ويرضى أو يفهم. يعتقد السياسي أنه يعمل، وأن الصحافي يشوش على عمله، وبدلاً من أن يجتهد السياسي بما أوتي من أدوات ووسائل ليحجم الفساد في بلده، أو ينشر الفضيلة فيه، أو يقنع السياسيين باستخدام لغة نظيفة في الحوار، أو يضع أجندة أولويات وطنية رشيدة وموضوعية، فإنه يترك هذا كله، ويلتفت إلى الصحافي؛ طالباً وآمراً، وأحياناً متوعداً: لا تنشر عن الفساد، لا تذع النقد، لا تنقل الفضائح، لا تشر إلى هذا الخلل... أو «تعال أكتب أنا لك». نعم... عرف الغرب النزاع نفسه وسوء الفهم ذاته، لكنه حسمه قبل عقود؛ باعتبار أن للصحافي عمله كما أن للسياسي عمله، أما في بلادنا فيبدو أن النزاع لم يحسم، وستستمر آثاره طويلاً.* كاتب مصري