التغيير من أعلى
من الأفضل أن يأتي التغيير والإصلاح من أسفل، فيصبح نتاج ثقافة الجماعة وأشواقها الحياتية وحركتها المادية في الواقع المعيش، لكن حين يصاب المجتمع بعجز يسلبه القدرة على تغيير الأوضاع المتردية، تتطلع النخبة إلى دائرة الفعل السياسي الضيقة، التي ربما تتضاءل لتنحصر في شخص الحاكم فقط، كي تشرع في عملية الإصلاح، فتأتي سريعة، مستجيبة لبعض طموحات الداخل، وجزء من ضغوط الخارج، لكنها لا ترتب أبدا عقدا اجتماعيا، يعيد صياغة النظام السياسي على أساس ديمقراطي، ويضع الحد الفاصل بين الحاكم والمحكوم، ويقيم من الجماهير وعاء للشرعية السياسية، ويجعل «تداول السلطة» بأيديها، ومستقبل الدولة لا يمضي بعيدا عن عينيها.والتغيير من أسفل يعتمد على ترسيخ ثقافة الديمقراطية في عقل المجتمع، اعتمادا على أن الديمقراطية منظومة من القيم السياسية والفلسفية قبل أن تكون إجراءات مقننة، تسمح بتداول السلطة سلميا، وإطلاق قدرات المجتمع المادية على أساس من تكافؤ الفرص.
كما أن التغيير من أسفل يتكئ على ضرورة توزيع الإمكانات الاقتصادية في الدولة، حسب قوانين السوق الطبيعية، بما يكسر احتكار أحد بعينه، سواء كانت مجموعة أو تيار أو مؤسسة، للمال. وهذا يعني، بالتبعية، توزيع الموارد السياسية، حين يسعى من بيدهم المال إلى تحصيل السلطة، في منافسة شريفة نزيهة...لكن إذا كانت قيم الديمقراطية لم تترسخ في المجتمع بعد، بحيث تصبح جوهرا لعملية التنشئة بدءا بالأسرة وانتهاء بالحزب السياسي، وإذا كانت القدرات الاقتصادية لا تعرف انتشارا، بل تقوم على احتكار القلة، أو تقع بأيدي تحالفات اجتماعية ضيقة، فهنا يصبح التعويل على تغيير القاع، توطئة لتغيير القمة، مسألة لا يمكن معها إنجاز إصلاح سريع، بل إن السلطة التي تريد إصلاحا، تتخذ من هذه المسألة ذريعة، لعدم الإقدام على خطوة من هذا القبيل. وفي السنوات الأخيرة امتلأ الخطاب الرسمي العربي بحجج حول عدم نضج الجماعة بما يمكنها من استيعاب الديمقراطية، ومخاوف من قوى سياسية بعينها، تتمثل في الحركات السياسية ذات الإسناد الديني، من أن تتخذ من الديمقراطية وسيلة للقفز إلى سدة الحكم، دون أن تكون مؤمنة بتداول السلطة، أو مقتنعة بقيمتي الحرية والتسامح، وحق الاختلاف. وقد وجد هذا الخطاب الملفق، الذي يضع العربة أمام الحصان، من بين النخبة الثقافية، من يدافع عنه، لحساب السلطة، طمعا في مغنم، أو هربا من مغرم، وفي إصرار واضح على تضليل الجماعة الوطنية، وإعطاء من لا يريدون إصلاحا فسحة كبيرة من الوقت، كي ينعموا بما هم فيه من سلطات غير محدودة، في ظل غياب المساءلة أو تغييبها.وقد حفلت التجارب الإنسانية بإصلاحات من أعلى، لم تنتظر فيها النخب الحاكمة، لوطنيتها وتجردها في خدمة المصلحة العامة، امتلاء الجماهير كافة بقيم الديمقراطية، وأخذت زمام المبادرة، وطورت نظمها السياسية إلى الأفضل، الأمر الذي ترك بصمات إيجابية على مجتمعاتها، اقتصاديا وثقافيا، وأوجد مع الوقت انتشارا لقيم الديمقراطية، بحيث بات من الصعب أن يقفز أحد عليها، أو يعطل مسيرتها، بدا هنا الإصلاح السياسي من أعلى بمنزلة القاطرة التي شدت وراءها العربات كافة. إن نقاط التحول، في الغالب الأعم، تكون من صنع النخب، وليس من صناعة الجماهير، وحتى لو تحركت الأخيرة، فإن حركتها تصب في قنوات محددة، أو وسائط سياسية معنية، تمتلكها النخب، سواء كانت رموزا اجتماعية وسياسية، أو مؤسسات وطنية. ولذا فإن انتظار إصلاح كل فرد على حدة، وصولا إلى إصلاح الجماعة، يبدو أمرا غير عملي، إلى جانب أنه مسألة بطيئة، قد يستغرق تحقيقها عقودا من الزمن، إن لم تكن قرونا.كما أن الجماهير لم ترتكب جرم تأخير الإصلاح السياسي الشامل، بل إن إبطاء الإصلاح، أو تغييبه، بمعنى أدق، فرض عليها من أعلى، ولأن من أفسد شيئا عليه إصلاحه، فإن النخب الحاكمة هي المطالبة بتصحيح الأوضاع المختلة، واتخاذ خطوات سريعة على درب الإصلاح. وهي في هذه الحالة لن تقدم منحة للجماهير، بل ستعيد إليها حقا مهضوما، وتبني جسورا من السلام الاجتماعي، الذي من المحقق أنه سينهار تماما، إذا استمرت الأوضاع على حالها الراهن، حين يدفع الاستبداد والفقر والاحتقان من الفساد والإذلال، الناس إلى الخروج. كما أن هذه النخب الحاكمة، ستقي على التوازي، إذا أقدمت على الإصلاح طواعية، مجتمعاتها من خطر التدخل الخارجي، في ظل ربط الدول الكبرى عسكريا واقتصاديا في عالمنا المعاصر، الإرهاب بالاستبداد، وإبدائها عزما لا يلين على أن تدافع عن مصالحها الوطنية، حتى لو أزاحت في طريقها كل النظم الدكتاتورية.* كاتب وباحث مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء