الحملة على مصر
ربما لا يختلف اثنان، حتى لو كانا من أشد المؤيدين لسياسات الحكومة المصرية، على أن الإدارة السياسية المصرية لأزمة جريمة الاعتداء البشع على غزة سيئة وأقل من المتوقع والمطلوب وتعكس خللاً وسوء تقدير بالغين. لكن الإنصاف يقتضي القول أيضاً إن الحملة الشرسة على القاهرة، والتي تبلورت، للأسف الشديد، في هجمات سياسية جارحة، وتظاهرات شعبية «غوغائية»، وتصرفات غير مسؤولة بلغت حد حرق العلم المصري، ومهاجمة مقار البعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج، افتئاتاً على حرمتها وحصانتها، كانت غير مبررة ولا مقبولة.لا يترك العدوان الإسرائيلي الآثم على غزة فرصة مناسبة لتشخيص دقيق أو منصف للحدث؛ فالآلة العسكرية الإسرائيلية الفتاكة تواصل فعلها الهمجي بحق أهلنا العزل في فلسطين، تقتل وتشرد رجالاً وشيوخاً، ولا تستثني الأطفال والنساء، ولا تترك حياً أو جماداً، بشكل يفوق كل طاقة على النظر وإعمال العقل وتحليل الأوضاع تحليلاً عاقلاً أو نزيهاً.
وضاع، فيما ضاع، في ذروة الأزمة المحتدمة وتأثراً بالدماء الغالية المسفوكة لأحبة وأعزاء من أفراد شعب غزة، كل إدراك عاقل لطبيعة الدور المصري التاريخي حيال قضايا الأمة العربية أولاً وتجاه القضية الفلسطينية تالياً، كما بات الحديث عن الاعتبارات السياسية ومقتضيات السيادة والخيارات الاستراتيجية والاستحقاقات التكتيكية للدولة المصرية إزاء الأزمة، ترفاً ليس بمقدرة أحد التحلي به، وربما «تنطعاً» يستوجب المحاسبة والتقريع والذم، وصولاً إلى الاتهام الدامغ بـ «الخيانة» و«العمالة»، وفي أفضل الأحوال «العته والبلاهة».فالكلام المكرر ذاته عن مئة ألف شهيد مصري قضوا في حروب مصر ضد إسرائيل، ومئات الآلاف من الجرحى والمشردين في مسلسل اقتتال مرير بدأ مع حرب عام 1948، وتصاعد في العدوان الثلاثي 1956، قبل أن يصل ذروة مآساته في هزيمة عام 1967، ليتواصل مقاوماً جريحاً طيلة فترة حرب الاستنزاف، قبل أن يتوج بالانتصار الكريم في عام 1973، لم يعد مجدياً في ذروة الإحساس بما يسمى «التواطؤ» المصري مع العدوان الإسرائيلي الهمجي.والحديث المعاد أيضاً عن اختيار مصر عقد معاهدة سلام مع إسرائيل، تسترد بها بقية أراضيها المحتلة، وفق ترتيبات محددة، تبلغ حلاً وسطاً، يحفظ للقاهرة سيادتها على أراضيها مقابل «ضمانات» واستحقاقات تحصل عليها الدولة العبرية، حسب ميزان القوى السائد بين البلدين وقتذاك، وتماشياً مع الأوضاع الإقليمية والدولية بمحدداتها وقيودها، وما تلا ذلك من معارك دبلوماسية وقانونية خاضتها مصر لتحرير آخر حبة تراب من أرضها في طابا، لم يعد مثل هذا الحديث كذلك يشفي غليل المواطنين العرب المأزومين بمشاهد العدوان وبرك الدم ولا الساسة الذين يحركونهم بوسائل الخطابة والدعاية.بدأت الحملة على مصر من طهران، حين تظاهر المئات من الإيرانيين أمام مقر بعثة رعاية المصالح المصرية في اليوم الثامن من الشهر الماضي، منددين بما اعتبروه «تواطؤاً مصرياً مع العدوان على غزة» قبل أن يبدأ. ثم انتقلت إلى الطرف الآخر في المحور الإيراني- السوري، حيث جرت التظاهرات تلك المرة في العاصمة السورية دمشق، لتمارس الضغط ذاته على الحكومة المصرية.ومع بدء العمليات الإسرائيلية الهمجية ضد الإخوة الفلسطينيين في غزة، وعقب الخلل الواضح الذي ظهر في الأداء الدبلوماسي المصري، خصوصاً خلال لقاء وزير الخارجية أحمد أبو الغيط نظيرته الإسرائيلية تسيبي لفني في القاهرة، تدحرجت كرة الثلج سريعاً، لتشهد عواصم عربية عدة التظاهرات ذاتها، والشعارات نفسها، قبل أن تتطور مظاهر الاحتجاج إلى استهداف المقار الدبلوماسية المصرية بأعمال عدائية سافرة وغير مسبوقة. وقد بدأت تلك السلسلة من الأعمال العدائية بالتنديد والاتهامات الجارحة بحق القيادة والحكومة المصرية في ليبيا والأردن، وتصاعدت مع محاصرة مبنى السفارة ورشقها بالحجارة في بيروت، وصولاً إلى اقتحام مبنى القنصلية في عدن، وتخريب محتوياته، وإنزال العلم المصري من عليه وإحراقه... والبقية ربما تأتي بشكل أنكى وأشد قسوة.واكتسبت الحملة المزيد من «المشروعية» والزخم حين تعززت بالطبع بأصوات وطنية وقومية مصرية، رأت أن الإدارة الحكومية للأزمة فاشلة وغير واعية ولا مسؤولة، وتطورت عبر مساندة واضحة من فصائل وحركات مصرية لديها أجنداتها وأغراضها السياسية المشروعة أو غير المشروعة، وتدثرت بإحساس شعبي فطري عارم داخل مصر، قادته عواطف إنسانية ووطنية وقومية إلى الدعوة إلى «إجراءات مضادة عنيفة» ضد إسرائيل، وصولاً إلى الاستعداد النبيل لـ«شن الحرب» ضد العدو الصهيوني.لكن كثيرين لم يجدوا الوقت ولا الطاقة اللازمين للوقوف برهة وتحليل المشهد برمته وحساب مواقف الأطراف الفاعلة في الحملة على مصر وتقدير الخيارات المتاحة أمامها لخدمة الأهل في غزة وإيقاف العدوان الهمجي بحقهم، وما إذا كانوا وفوا باستحقاقاتهم تجاه الصراع عموماً وأزمته الأخيرة خصوصاً، أم أنهم اكتفوا، كما العادة، بالتعويل على مصر ووضعها موضع «المدان والمتهم والمتقاعس والمتواطؤ والخائن لقضايا الأمة».الجميع يعرف أن إيران، رغم الحديث الدائم عن قدراتها العسكرية «الفائقة» لم تطلق رصاصة واحدة مباشرة على «عدوها الذي أعلنت ضرورة محوه من خريطة المنطقة»، وأنها تعاونت بامتياز مع الحرب الأميركية على كل من أفغانستان والعراق، وأنها مازالت تحتل جزر دولة الإمارات العربية المتحدة. وبالضرورة فإن الجميع أيضاً يعلم أن سورية لم تنشِّط المقاومة في جبهة الجولان المحتلة منذ عام 1973، أما «حزب الله» فقد حدد مطالبه من الدولة اللبنانية في «المطالبة بأعلى صوت بقمة عربية طارئة»، ومن الشعب اللبناني في «الدعوة إلى تظاهرة تأبينية للشهداء».أما الأطراف الأخرى مثل ليبيا والأردن وقطر واليمن وعدد آخر من الدول العربية، فلا شك أن سجلاتها في مقاربة القضية الفلسطينية، وتعاطي بعضها مع الطرف الإسرائيلي وحليفه الأميركي لا تسفر سوى عن طيف يمتد من علاقات التعاهد والتعاون إلى المساومة والإذعان، ولا ينتهي سوى عند المعارضة الشكلية والقتال بالحناجر في أفضل الأحوال.لم تقم مصر بما كان واجباً عليها إزاء العدوان على غزة، وهي أخطأت مثل الجميع، لكنها ليست أسوأ حالاً منهم ولا أكثر تقاعساً. والحملة على مصر لن تحقق مكاسب سوى لإسرائيل وأطراف إقليمية لديها مطالب وأغراض أقل نزاهة وأكثر براغماتية من تلك التي تسعى مصر لإدراكها.* كاتب مصري