من البشير الصامد إلى حنبعل الفاتح!
تتهم المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني بالمسؤولية عن ارتكاب جرائم إبادة عرقية، فيهب إعلام غريزي عربي إلى اعتبار ذلك مؤامرة أميركية على السودان (أميركا غير موقعة على اتفاقية تشكيل المحكمة لأنها تطلب الحصانة لمسؤوليها المدنيين والعسكريين، الأمر الذي يتعارض مع ولاية المحكمة...)، ولا يفوت أحداً من معلقين وكتاب غريزيين (والغريزية هي تشكل منحط للشعبوية) التذكير بأن إسرائيل ترتكب جرائم كبيرة، فلا تتهمها المحكمة أو تعمل على استصدار مذكرات توقيف بحق بعض رسمييها. ويجري توقيف هانيبال (أو حنبعل) معمر القذافي في فندق سويسري فاخر بتهمة ضرب خادمتيه العربيتين، التونسية والمغربية، فتنبري شقيقته عائشة معمر القذافي إلى وضع الحدث في سياق عنصرية غربية مفترضة ضد العرب، بينما يبادر مسؤولون ليبيون إلى اعتبار الحدث «إهانة لكرامة البلاد»، قبل أن يمضي محسوبون على القذافي الأب إلى حد وصف الواقعة بأنها «جريمة مروعة» و«تصرف خطير غير مسبوق». ولا تنسى الدولة الليبية أن تعتقل مواطنيْن سويسريين بتهمة «إقامة غير شرعية» في «الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى».
ترى كم ينبغي أن يقتل من الدارفوريين فوق 300 ألف قتلوا حتى الآن، وكم ينبغي أن تستمر المذبحة فوق السنوات الخمس المنقضية على تدشينها، حتى يكون للمحكمة الجنائية الدولية الحق في اتهام رئيس الدولة التي تجري فيها هذا المجازر بالمسؤولية عنها؟ ولو كان القتلى مليونا مثلا، هل كانت خفتت أصوات الهاتفين السودانيين «يا أوكامبو يا جبان/ يا عميل الأميركان»، إبان استقبال البشير في دارفور قبل أيام؟ وإذا ترك الأمر لهذه الأصوات ولمثيلاتها العربية، فمتى ستبادر إلى الاحتجاج على المقتلة؟ وهل يتبين هؤلاء أنه بإقحام الجرائم الإسرائيلية بين المحكمة الدولية ومذبحة دارفور إنما يجعلوننا والإسرائيليين (العدوانيين العنصريين...) في الجريمة سواء، من دون أن يلحظوا أن إسرائيل ترتكب جرائمها ضد فلسطينيين ولبنانيين، عرب بعامة، بينما يقتل قتلتنا الوطنيون مواطنيهم بالذات، مرة لاختلاف في المذهب، ومرة لاختلاف في العرق، ودوما لاختلاف في الرأي والسياسة؟ وهل كانت كرامة ليبيا والليبيين (دع عنك خادمتين أنثيين، تونسية ومغربية) مصونة قبيل اعتقال سويسرا ابن أبيه الذي يحكم منذ نحو أربعين عاما؟ وإذا كان اعتقال شخص ليومين «جريمة مروعة»، فماذا يكون اعتقال الآلاف من الليبيين مئات الأيام وألوفها وتعذيبهم؟ وماذا يكون «اختفاء» معارضين ليبيين من دون أثر منذ 12 عاما على الأقل؟ وبم يوصف تبديد ثروة شعب ليبيا في مشاريع غريبة في الداخل والخارج؟ ولو كان السويسريون عنصريين فعلا، لتركوا القذافي الابن يضرب خادمتيه العربيتين، ولاعتبروا أن الضرب شيء عادي عند العرب، وربما يكون عنصرا «أصيلا» في ثقافتهم، خصوصا إن كان ضرب خادمة أنثى من قبل ذكر مخدوم. لكن بالضبط لأن السويسريين غير عنصريين، فهم يرون أن الكرامة لصيقة بكل إنسان، وأن الاعتداءات الجسدية غير مقبولة، وينبغي أن يعاقب مرتكبها مهما يكن من وقعت عليه ومن أوقعها، يستوي في ذلك ابن أمير مع ابنة عامي، لم تحبُ المقادير بلده بالنفط الوفير. لسان حال السويسريين الذين بادرت الدولة القذافية إلى قطع البترول عنها وهددت بمزيد من التصعيد، هو: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»، ولسان حال الدولة القذافية هو: أنا أمير ابن أمير، وهما من السوقة! وبفضل شبكة الإنترنت نعلم أنه سبق للأمير الصغير حنبعل (32 عاما) أن تعرض للملاحقة في باريس في 2005 بعدما ضرب صديقته. كما أوقف في باريس في 2004 بينما كان يقود سيارته البورش السوداء بسرعة 140 كلم في الساعة في جادة الشانزيليزيه وعكس السير. وقبلها بثلاث سنوات، كان الفاتح الليبي ومرافقوه اشتبكوا في عاصمة الرومان القدامى مع فرقة من الشرطة الإيطالية تدخلت لضبطهم، وهم سكارى في أحد المرابع الليلية. لو كان عند إعلامنا الغريزي حس حي بالعدل والإنصاف والمساواة بين البشر لرحب بالدعوة إلى محاكمة السوداني الأول، ولشفع ترحيبه هذا بالدعوة إلى محاكمة جرائم أخرى ضد الإنسانية أو جرائم تطهير عرقي أو جرائم حرب ضد مسؤولين إسرائيليين وضد مسؤولين عرب آخرين. فهذا يظهر اتساقه وإعلاءه من قيم المساواة والحرية والكرامة الإنسانية على قيم القبيلة والعصبية. وما لا يراه أصناف من الكتبة أن تنديدهم بالمحكمة وتشكيكهم المبدئي والسابق لأي معرفة مفصلة بالعدالة الدولية، هو بمنزلة تبرير بعدي لكل جرائم إسرائيل. ما لا يرونه أيضا تهافت منطقهم؛ فإذا كان من طبيعة العالم الظلم والجور، فأي معنى يبقى لإدانته إن فعل ما هو من طبعه وطبيعته؟ وكيف نستطيع أن نرى أنه يحصل أحيانا ألا يظلم ولا يجور، على نحو ما فعل بالضبط «الجبان وعميل الأميركان» أوكامبو؟ ألن نحرص بالأحرى على عمانا، بأن نقرر أن العدل الظاهري هذا هو في الواقع ظلم وتآمر وخداع، على نحو ما يفعل كثيرون بيننا أو أكثرنا بالفعل؟ البشير مسؤول عن مقاتل بعض شعبه مرتين: مرة لمجرد أنها وقعت في عهده وهو «ولي الأمر»، ومرة لأن حكومته متواطئة مع ميليشيات الجنجويد، بل راعية وداعمة لها حسب كثير من المصادر. فبأي مفهوم للعدالة يمكن للرجل أن يكون بريئاً؟ وما هي العدالة التي يقترحها لمحاكمته المسارعون إلى إدانة المحكمة الجنائية الدولية؟ وأي سياسة حكيمة تؤمل ممن لم يسُسْ أهل بيته وينجح في تربية ابنه؟ ليتك يا عميد حكامنا ترتكب «جرائم مروعة» فتمنح الليبيين عدالة سويسرية!* كاتب ومفكر سوري