كتابة وطن كبير... كتابة ذات صغيرة (2-2)
الأدب على مر العصور هو مرآة الواقع المخايلة، مرآة تستخدم عصا الفن الساحرة لتحيل ألوان الواقع الباهتة والمسودة إلى ألوان مشرقة وزاهية، جاعلة منها متعة مسلية وموحية لجموع الجمهور المتلقي، متعة يدس من خلالها الكتّاب قناعاتهم وآلامهم، ويحمّلونها رؤاهم بانتماءاتهم الحياتية والحزبية، وذلك حقهم المشروع الذي لا يساومهم أحد فيه.
إن انجذاب الإنسان العربي لحمى الحوار والحدث السياسي والعسكري، بسبب من انتمائه القومي من جهة، وبسبب من شعوره بتأثير الأحداث في مجريات عيشه من جهة ثانية، جعل من حياة وأفكار الأحزاب السياسية العربية وصداماتها واحترابها، حدثاً يومياً حاضراً على مائدة واهتمام الإنسان العربي، بمختلف مستوياته الفكرية والتعليمية والثقافية. وهذا بدوره دفع كل حزب على حدة إلى تبني ورعاية أدباء ومثقفين يحملون قناعاته، ويلعبون الدور الأساسي في ترويج وتوصيل آرائه وأفكاره إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، مما ساهم، بشكل كبير، في ظهور كتّاب حزبيين، وميلاد كتّاب يجدون في الأحزاب ضالتهم للركوب على ظهر مقولاتها بغية الوصول إلى القارئ، وكانت المحصلة أدباً مسيّساً، أدباً حزبياً، أدباً يتخذ من الشعارات القومية والوطنية مطية يصوغ على أساسها أشكاله الفنية، مسقطاً من حساباته حياة الإنسان الفرد. لكن هذا القول لا يعني بالضرورة أن جميع أدب مرحلة النضال الحزبي العربي، التي يمكن التأريخ لها منذ بداية الخمسينيات حتى سقوط الاتحاد السوفييتي بتاريخ 17/12/1991، رديء ومسيّس وخالٍ من الإبداع. إن تغيّر الظرف العالمي، وانعكاساته الكبيرة على الظرف العربي سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً، إضافة إلى ثورة المعلومات والاتصال وشبكة الإنترنت، أدى إلى ظهور أدب وفن عربيين بملامح جديدة. أدب تحتل فيه النزعات والهواجس الفردية الذاتية المكانة الأوضح بعيداً عن الشعارات القومية الوطنية، وفن تسيطر عليه لغة الجسد، وإيماءة الابتذال. إن دارسي الأدب والنقاد يرون أن انتقال ونقلة الآداب العربية كانت نقلة نوعية كبيرة، خصوصا وتيرة تسارعها. بما يؤكد أن المرحلة الأدبية الماضية قد استنفدت مداها، وأن الإنسان (الكاتب) العربي كان متشوقاً للانقلاب على سلطة الكتابات الحزبية المهيمنة، والتعبير عن نفسه وهمومه الذاتية، والكتابة عن عوالم محيط علاقاته الأقرب. وهذا حمل للقارئ العربي كتابات فيها من أسرار التجربة الشخصية الخاصة، أكثر بكثير مما فيها من ملابسات الشأن العام، مع اهتمام كبير ولافت بإبراز عوالم الجسد، وكان للأقلام النسائية حضور وأسبقية أكثر مما كان للأقلام الرجالية. كما برز اتجاه واضح في الكتابة عن النماذج المهمشة في المجتمع، والمطحونة في تأمين رزق يومها وسعادتها اللحظية العابرة. وكأن الكتابة عن هذه الشرائح هي اعتراف صريح بهجر الكتابة عن النماذج البشرية الكبرى (البطل القومي)، والنزول إلى تبني حياة الفرد المهمش، الذي يشكل الأغلبية الساحقة في بنية المجتمعات العربية. إن الكتابة عن الشخصية الإنسانية مهمشة كانت أو بطلاً قومياً، تستوجب بالضرورة حضور الهم الإنساني فيها، لأن الهم والمعاناة الإنسانية وحدهما المشترك الأكبر بين الإنسان وأخيه الإنسان حيثما كانا. ووحدهما يستعصيان على السقوط حتى بعد سقوط أي أيدلوجية. من ذلك يبدو واضحاً أن الكتابة عن الهم القومي الوطني الكبير ليست عيباً أو سبة، وأن الكتابة عن الفرد أو الذات بمحيط حياتها الصغير ليست منقصة. لكن الأهم في أي كتابة إبداعية، هو أن يخط الأديب مادة فنية مستوفية لشروط جنسها الأدبي بامتياز، ومعجونة بروح العصر، وعامرة بصدق نَفَسها الإنساني، وبعيدة عن روح التحزب الضيق، وأخيراً منفتحة على أحلام وأماني الإنسان الباقية.