بعد استعراض الديمقراطية وبعض ملامحها مع بدايات العهد الدستوري، خصوصا ما يتعلق بمفهوم المعارضة السياسية وقوتها وتماسكها النسبية، نحاول أن نسلط الضوء على بعض الشواهد التي ساهمت في خلط الأوراق السياسية من جهة، وأجهضت النمو الطبيعي والتكامل التدريجي للديمقراطية كنظام سياسي-اجتماعي-اقتصادي متكامل من جهة أخرى.
ففي أعقاب الحل غير الدستوري الأول لمجلس الأمة في منتصف السبعينيات مباشرة دخلت الحكومة في تحالف سياسي بعيد المدى مع بعض الجماعات الدينية تحديداً إضافة إلى بعض القطاعات الاجتماعية، وتكرر هذا السيناريو بعد الحل غير الدستوري الثاني، وبسبب غياب الرقابة والمحاسبة لمدد طويلة اكتسبت هذه القوى الكثير من المزايا سواء من خلال المناصب القيادية والوسطى في الدولة أو مراكز اتخاذ القرار فيها إضافة إلى المنافع المالية التي كانت تدرها تلك المراكز دون حسيب أو رقيب، وأولى ثمار هذه التحالفات كانت ترسيخ قواعد الشللية والتنفيع في معظم أجهزة الدولة وتحولها في ما بعد إلى فساد مؤسسي منظم بشتى صوره وأنواعه ناهيك عن التجرؤ على الأموال العامة وبروز ظاهرة الفساد الملي المنظم أيضاً، وفي ظل هذه المعطيات برزت شخصيات وقوى كواجهات ونخب سياسية واجتماعية جديدة.وساهمت تلك القوى الجديدة إما بشكل مباشر وبشراكة حقيقية وإما بشكل غير مباشر من خلال السكوت وغض الطرف بفرض واقع سياسي من بين أهدافه إضعاف الدستور وتقليل هيبته أو من خلال التلاعب بالديمقراطية عن طريق إعادة رسم الدوائر الانتخابية للمستقبل بحيث تقنن الفئوية والقبلية والطائفية، ولتكون العودة للديمقراطية مكرسة للاهتمامات الضيقة بشؤون المواطنين كل حسب طبقته الاجتماعية وانتمائه القبلي والمذهبي وإثقال كاهل النواب بما يعرف بالخدمات العامة على حساب الأطروحات الوطنية العامة.وبالنتيجة انتقلت عدوى الموالاة بدل المعارضة إلى العديد من القوى والتيارات السياسية بل حتى الأفراد، فما عادت مفاهيم المعارضة والدفاع عن المقومات الدستورية والحريات العامة شعارات قابلة للترجمة العملية على أرض الواقع في مقابل جاذبية الإغراءات الحكومية وسهولة تحقيق الأهداف من خلالها لسببين: الأول، تعاظم حجم المغريات وتحول الحديث من الملايين إلى المليارات. والثاني، سهولة الاستفادة من المنصب الحكومي في إرضاء القواعد الضيقة، خصوصا في المناصب ذات المزايا والنفوذ.وأصبح حتى الأكفاء من الشخصيات التي تدخل الحكومة تجد نفسها بسبب الضغط الحزبي مرغمة، أو وسيلة، لتنفيذ بعض اجتهاداتها بما تحمل من فكر ورؤى وبحسب الظروف، وفقدت بذلك أهمية المشاركة في السلطة من خلال شروط مسبقة كما هو الحال في معظم النظم الدستورية وعدم قدرة وزراء المعارضة على فرض برامجهم السياسية، بل وقد يضطرون حتى إلى التخلي عن بعض أفكارهم ومبادئهم الأساسية وتبرير أخطاء الحكومة مجتمعة.وهذا ما أدى في نهاية المطاف ومع مرور الوقت إلى إضعاف المعارضة كطرح سياسي ناضج ووعاء لفكر تنموي متكامل وامتداد جماهيري منظم، وفقدانها حتى للمصداقية عند تخلي الحكومة عنها وطعن البقية بها للتكسب الشعبي، خصوصا في مواسم الانتخابات.وإذا كان هذا بالنسبة للقوى السياسية العريقة فما بال الأفراد والتجمعات الصغيرة التي لا تملك أي مقومات إعلامية أو قدرات مالية لتنافس الوضع، ولهذا فإن أفضل طرق مجاراة لهذا الواقع السياسي هو من خلال مخاطبة الجمهور ولو بالعاطفة والأطروحات الشعبية. ولهذا أيضاً فإن الديمقراطية لم يبق لها سوى القشر الخارجي الذي يبين الكثير من الآراء والأطروحات والفضاء الحر للتعبير عنها بكل الصور من دون جوهر داخلي يعيد للمجتمع توازنه السياسي ومصداقية الممارسة الديمقراطية عملياً. وفي رأيي، فإن هذا الواقع سوف يستمر حتى تبرز معطيات جديدة وقوى وطنية مشتركة قادرة على لم هذا الشتات والتشرذم، وهذا لن يتحقق إلا في ظل جهود شبابية بيضاء السريرة ومتفائلة بالمستقبل وواثقة من نفسها وثقة الشعب فيها.
مقالات
ديمقراطية هالأيام !
19-09-2008