الكويت من الدولة إلى الإمارة - الدكتور أحمد الخطيب يتذكر - الجزء الثاني (1)
حرصت على عدم الردّ على الاتهامات التي وجهّت إليّ لأنني لا أريد الخوض في صراعات جانبية تحيد بي عن هدف هذا الكتاب
إهداء إلى شابات وشبّان الكويت الذين يعملون على إعادة الكويت إلى دورها الريادي في المنطقة. إلى أولئك الذين يسعون إلى بناء مجتمع ينعم فيه المواطن بالحرية والمساواة تحت سقف قانون واحد يسري على الجميع، ويكون هدفه إطلاق إبداعات أبنائه وليس تقييدها باسم المحافظة على عادات وتقاليد هي جاهلية في طبيعتها ولا تمتّ بصلة إلى الدين ولا إلى ما جبلت عليه الكويت منذ نشأتها من تعلّق بالمشاركة في السلطة، ثم الالتزام بدستور 62 الذي قنن هذه الطبيعة الكويتية.
إلى الشابات والشبّان الذين يحلمون بمستقبل مشرق للكويت يعيد دورها الرائد في محيطها، كي تنضم إلى عالم العلم والمعرفة الذي أخذ ينطلق بسرعة هائلة لا مكان فيه للمتخلّفين. إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا الكتاب. كان الجزء الأول من هذه الذكريات استعراضاً لنضالات هذا الشعب في الانتقال من إمارة إلى دولة ديمقراطية يحكمها دستور. وقد أنجزت الكويت هذه المرحلة المهمة والكبيرة في دستور 1962، وذلك جعلها تحتل مركزاً متميزاً بالنسبة لدول الجزيرة العربية. وكانت منارة حقيقية حركت مشاعر الكثيرين من شعوب هذه المنطقة التوّاقة إلى اللحاق بركب المجتمعات الديمقراطية الحضارية في العالم، التي وفّرت لشعوبها المناخ لكي تساهم وتبدع في إغناء التراث العالمي في التقدم في كل المجالات. أما هذا الجزء فسوف يستعرض الحالة البائسة التي وصلنا إليها الآن. فهو يشخص الوضع الحالي الذي أرجعنا إلى البداية -عهد الإمارة ثانية- ويذكر كيف حصل ذلك، كما يحاول أن يعطي صورة متفائلة للمستقبل بسبب دخول الحركة الشبابية الكويتية إلى حلبة الصراع السياسي بعد غياب طويل. نحن الآن في مرحلة تمّ فيها تعطيل الدستور وكل المؤسسات الدستورية التنفيذية والتشريعية والرقابية وإنهاء النظام الدستوري برمّته، وأصبحنا نقترب إلى حالة انعدام وجود دولة القانون أي ما يسمّى (Failed State). دولة القانون إن الدولة الحديثة تعني دولة القانون، قانون واحد يطبّق على جميع الناس، ويشكل الأساس لبناء وطن قوي يحبّه ويتمسك به جميع أبنائه لما يتيحه لهم من فرص متساوية. وأيضاً يحتاج الوطن إلى هويّة يحملها أبناؤه ويفخرون بها. وكلما كانت هذه الهويّة هويّة للوطن كلّه، تخلّى المواطنون عن هوياتهم السابقة لقيام الدولة والوطن، والتي هي في بلادنا هويات قَبَليّة ومناطقيّة ودينيّة طائفيّة، وهنا يكون على الدولة أن تسعى إلى تقوية الهويّة الجامعة فلا تمزّق هويات ما قبل الوطن، هذا الوطن. من أجل ذلك سعيت طوال حياتي وطوال عملي السياسي إلى بناء الدولة الحديثة، دولة القانون، والخطوة الأولى على هذه الطريق هي قيام سلطة التشريع، وسلطة التشريع في الدول الحديثة هي البرلمان، حيث تصاغ القوانين من ممثلي الشعب. والحلقة الأولى في هذه القوانين هي الدستور. إنه عماد قيام المؤسسات وانتظام عملها، والأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة. وسعيت إلى قيام الهويّة الجامعة أيضاً، ولذلك تمسّكت بالعمل القومي والوطني، ووجدت أن ارتباط الكويت، هذا البلد الصغير، بمحيطه العربي ضرورة لحمايته، وأن قوة هذا المحيط العربي الذي تربطنا به وشائج كبيرة، هي قوّة للكويت، وقوّة لتلك المشاعر الجامعة والقويّة التي تربط الشعوب العربية بعضها ببعض، خصوصا أن بدايات وعيي السياسي ترافقت مع محنة العرب الكبرى، أي احتلال فلسطين من العدو الصهيوني وما عناه ذلك، ليس فقط من تشريد لشعب، يُفترض بكل مؤمن بالعدالة الإنسانية أن يقف ضد تشريده، فكيف إذا كان الذي تشرّد أخاً وأهلاً، ولكن أيضاً لأن هذه الشوكة في خاصرة العرب، أظهرت عجز السلطات العربيّة التي نصّب معظمها الاستعمار بما يخدم مصالحه. وأظهرت طوال العقود الستّة الماضية أنها رأس حربة لإضعاف دول المنطقة ومنع أي محاولة للتحرر والاستقلال الحقيقي الناجز. في هذه الفترة بدأت المراحل الأولى لمشاركتي في العمل السياسي، وهي فترة حافلة بمشاعر الغضب والرغبة في بناء أوطان قويّة، رغبة كانت تجمع كل الذين عاشوا تلك الفترة، ولذلك فإن هذه المشاعر تحولت إلى قوى سياسية امتدت كالنار في الهشيم، رغم أن ظروفاً كثيرة، لا مجال لمناقشتها في هذا الكتاب، أدت إلى مزيد من هزائم النظام العربي. هذا ما ركزت عليه في الجزء الأوّل من ذكرياتي، مبتعداً كل البعد عن التنظير، وقلب الحقائق لإثبات وجهة نظري أياً كانت وجهة النظر هذه. بل كتبتُ الوقائع كما عشتها أو كما عرفتها، وذكرت الأمور كما جرت وذكرت كل الأسماء التي شكلت مصادر معرفتي عن اللقاءات التي لم أكن حاضراً فيها ولكني عرفت ما دار فيها. المجتمع المدني وإذا كنت لا أدّعي بأني منزّه عن الأخطاء، فإنني أقول إن كلّ ما ذكرته لم يكن فيه أي تعسّف أو تجنّ، ولذلك حرصت على عدم الردّ على الاتهامات التي وجّهت إليّ، لأنني لا أريد الخوض في صراعات جانبية تحيد بي عن هدف هذا الكتاب المتمثّل في تقديم صورة عن مرحلة من تاريخ الكويت، لم أكتبها بهدف التأريخ، وهذا ليس عملي، بل بهدف إطلاع أجيال الشباب اليوم على مرحلة من النضال من أجل قيام الكويت دولة دستورية يحكمها قانون مدنيّ طالما تعرّض للانتقاد من بعض جيران الكويت، وطالما كانت هناك مطامع لدى البعض، بأن يتم التخلّص من هذه التجربة الرائدة، والعودة إلى حكم الفرد الذي يصبح هو الوطن والدولة والقانون، بما يعيد الكويت إلى الوراء. هذا السعي إلى إلغاء الدستور ليس جديداً، فإقرار الدستور جاء نتيجة صراع وموازين قوى، وكانت القوى الوطنيّة والقومية، وقوى المجتمع المدني الحيّة من شباب وطلاب وعمال وتجّار، تشكّل قوّة لا يمكن تجاوزها، ولذلك وبالتعاون مع الخيّرين الذين يحبّون الكويت، بل يحبّون شعب الكويت، تم إنجاز قيام الدستور عام 1962، ثم تمّت التعديات عليه، من أجل إضعافه وإعلاء سلطة الأشخاص. هذا الصراع لم يُحسم بعد، وهو يُطرح كل مرّة، وعلى أبناء الكويت، على شعب الكويت، على نساء ورجال الكويت، وقبل كل ذلك على شباب الكويت تقع معركة الدفاع ليس عن الدستور وعن دولة القانون المدني فحسب، بل حسم هذا الصراع وتثبيت الدستور وإدخال تعديلات عليه تتلاءم مع التطورات الحديثة ومع مصلحة شعب الكويت. وتكريس الدستور يعني تكريس دولة الحقوق المدنيّة، والحريّات العامّة، التي وبسبب ضعف القوى الوطنية والقومية، وضعف جمعيات المجتمع المدني وقواه الحيّة، نراها، أي هذه الحريات، تتراجع، وتتراجع على الأخص الحريّة الفرديّة والخاصّة للناس، والتي هي شرط الإبداع في كل مجال، بل يصبح حق التعبير عن الفرح، كما يعبّر عنه كل الناس بشكل تلقائي وفي كل زمان، بما في ذلك زمن الإسلام، أي بالموسيقى والغناء، يصبح هذا الحق ممنوعاً أو ملاحقاً، ويصبح من يدافع عنه متهماً في دينه وأخلاقه، ويحمي القانون عمليات المنع هذه. إن دولة الدستور والقانون التي كنت واحداً من كُثُر من أبناء الكويت المخلصين ممن سعوا إليها مهدّدة، لأن القيّمين على تطبيق القانون يطبّقون القانون بطريقة تجعل الناس يرون فيه ما يحدّ من حقوقهم وحريّاتهم في حين أنّ على القانون أنْ يحمي حقوقهم وحريّاتهم. وهذا يحصل لأنّ مَنْ يسيطر على المؤسسة الرئيسيّة، التي هي مؤسسة التشريع، قوى لا تريد القانون المدني بل تريد العودة بالكويت إلى الوراء، وتريد مصالحها الخاصّة قبل مصلحة المجتمع والوطن والشعب. التنوع لقد غاب التنوع عن سلطة التشريع، حامية القانون، وصار المال بدل السعي إلى بناء الوطن، الذي تكمن منعته في الاختيار الحر، هو ما يحرّك المؤسسات. غابت المحاسبة على السرقة والرشاوى، إلا عندما يُراد إسكات فلان لمصلحة فلان آخر. إن أفضل طريقة لإلغاء الدستور، والقانون، هي جعل طريقة تطبيقهما تتعارض مع ما يريده الناس بما يدفعهم للابتعاد عن المشاركة في الحياة العامة، وفي الانتخابات، ويدفع قوى المجتمع الحيّة والطامحة إلى تطوير الكويت إلى الانكفاء، وهو ما شهدناه من خلال النسب المتدنيّة للمشاركة في الانتخابات، ومن خلال تكتل الناس على أساس انتماءات ما قبل الدولة الجامعة، أي الانتماء القبلي أو الطائفي، ومن خلال الحديث المتزايد عن الدور السلبي لمجلس النواب. فباسم هذا القانون تُمنع احتفالات الفرح، وتُمنع الكتب، ويصبح كل وزير للإعلام أسير الخوف من المساءلة. ويُدفع الكويتيون إلى السفر إلى الخارج، ودفع أموال باهظة من أجل التنفيس عن هذا الكبت الذي يعيشونه، ويصبح كل كتاب مسموح في مكتبات الكويت غير مرغوب فيه، بمعزل عن قيمته، بسبب الجو السائد الذي يعتبر أن هذا المسموح قد مرّ على رقابة لا تسمح سوى بما لا يعكّر صفو النواب الذين يقفون بالمرصاد لأي كتاب أو أغنية أو موسيقى لا تنسجم مع أفكارهم التي صاغتها مصالحهم من أجل تأبيد سلطتهم لا من أجل قيام مجتمع منفتح يختار فيه الناس قناعاتهم بملء إرادتهم لا مما يُفرض عليهم. مُنحت المرأة حق التصويت في الكويت، لكن بسبب كل ما ذكرت لم تستطع سيدة واحدة أن تخترق هذه الانتماءات المتخلّفة، ولم تفز أي امرأة في الانتخابات. ضعفت حيويّة المجتمع، وضعفت قوة الحركة الديمقراطية والوطنيّة التي تتجاوز هذه الانتماءات، أو ربما كان ضعف المجتمع المدني نتيجة لضعف القوى الوطنية وتراجعها، وهذا موضوع آمل أن أستطيع تخصيص كتاب خاص له يناقش أسباب ما آلت إليه القوى الوطنيّة والديمقراطيّة، التي يُفترض بها أن تشكّل مستقبل الكويت، من ضعف وهزال. وهذا ما أذكر بعض ملامحه في هذا الكتاب تحت عنوان «ضمور العمل الوطني». لقد تحدّثت في الجزء الأوّل من هذه الذكريات، عن حيويّة قوى المجتمع المدني، وخصوصا قوة الشباب فيه، التي أسّست، وكنت مشاركاً فيها، صورة مشرقة للكويت، كويت الدستور والقانون والانتماء العربي والحريات الفرديّة والعامة، وكان نتيجة ذلك بلداً نفخر به، وأنتج ذلك مؤسسات ثقافية شكّلت منارة لاتزال تُذْكَرُ في كل محفل، ومؤسسات قانونيّة لم يكن لها نظير في المجتمعات التي كانت تسبق الكويت بأشواط، وكانت أوّل لجنة لحقوق الإنسان تُنشأ في برلمان عربي، أُنشئت في مجلس النواب الكويتي وبذلت جهوداً مهمة في موضوعات مثل التجنيس والبدون. لقد قامت قوى المجتمع المدني بخوض نضالات في الشارع وفي الجمعيات والنوادي ثم في البرلمان لتحقيق مكاسب لشعب الكويت، وأقرّت أنظمة الضمان الاجتماعي وخاضت نضالات لتحسين الأجور، وعبّرت عن رأيها في كل ما كان يحصل في العالم العربي والعالم بأجمعه. لماذا يغيب كل ذلك اليوم؟ اليوم والمجتمع الكويتي في أغلبيته، كما تظهر الإحصاءات، من الشباب، وبلدنا ينعم بوفرة مالية لم تكن له في يوم من الأيام. لقد تمّ إنجاز كبير تمثّل في حق المرأة في الاقتراع، وحين أنظر إلى نساء الكويت وفتيات الكويت أرى أمامي طاقات كبيرة، ومشاركة فعليّة في كل مناحي الحياة، فأغلبية شابات الكويت يتخرّجن من المدارس والجامعات ويسافر بعضهن للدراسة في الخارج، بل وهو الأهمّ، أصبح من الطبيعي أن تخرج المرأة الكويتية إلى العمل، وتشارك زوجها في بناء الأسرة، ورفض الصورة التقليدية للمرأة التابعة فقط. بل إن أعداد الفتيات اللواتي يصلن إلى التعليم الجامعي مدهشة بالقياس إلى بلد قليل السكان مثل الكويت. ومع ذلك لايزال دور المرأة شبه معدوم في تقرير شؤون المجتمع، وهذا ناتج عن عدم التفات المشرّع إلى منح المرأة حقوقاً قانونية تجعلها في صلب المجتمع، بقدر ما هو ناتج من التخلّف الذي يتم تعزيزه بسبب طريقة ممارسة السياسة التي تدفع الكويتي إلى الخضوع للقبيلة والطائفة، بدل أن يسعى للانتماء إلى الوطن، فهو يرى نفسه محتاجاً إلى الحماية، ومحتاجاً إلى الوظيفة، ومحتاجاً إلى الدخول في مشاريع... وكل ذلك يحتاج إلى دعم وحماية من القبيلة أو الطائفة. وهكذا يتمّ تعزيز سلطة القبيلة والطائفة على حساب سلطة الدولة. وهكذا سيكون على نساء الكويت اللواتي يُخضعهن هذا المجتمع أكثر من غيرهن، أن يناضلن من أجل استكمال حقوقهنّ. فلا تكون الثياب هي المحددة لهوية أيٍّ منهنّ، بل إمكاناتها وشهاداتها وقدرتها على ممارسة دور فاعل في الحياة. إلى الإمارة لقد كان عنوان الجزء الأول من هذا الكتاب «الكويت: من الإمارة إلى الدولة» وقد أوضحت فيه كيف انتقلت الكويت من كونها مشيخة صغيرة، إلى دولة لها مكانتها بفعل دورها الذي قامت به والذي شكّل صورتها، وهذه الصورة كانت واضحة وساطعة، إنها صورة دولة فيها مجلس أمّة ودستور وقانون مدني، دولة فيها قوى حيّة لمجتمع يرفع صوته ومطالبه من أجل تحسين ظروف حياته، ومن أجل تأميم نفط الكويت، ويعارض بأعلى صوت، ويشارك في آمال أمّته وخيباتها، ويدعم حيث يجب الدعم، ويتضامن مع الثورات الساعية إلى التخلص من الظلم. كل ذلك يحدث رغم أن محيط الكويت فيه سلطات مستمدة من مشيئة الحاكم والحاشية. وها هو الجزء الثاني «الكويت: من الدولة إلى الإمارة» يدق ناقوس خطر عودة الكويت إلى دولة فيها دستور وقانون صوريّان. وليس فيها مجتمع مدني وحركات شباب وشارع يضغط لتحقيق التقدّم، بل مجتمع معطّل منكفئ لا يرى الواحد فيه سوى مصلحته الشخصيّة، بل في غالب الأحيان لا يرى حتى مصلحته، ويسير مع عائلته، أو طائفته، بل إنه لا يسير، وإنما ينكفئ ويستقيل من الحياة العامة التي يرى أن الاهتمام بها مضيعة للوقت، ويكون بذلك قد فوّت على أولاده وأحفاده فرصا عديدة في هذا الزمن المعطّل بسبب جمود أوضاع الوطن وعدم تقدّمه وتطوّره، كل ذلك لأنه لا يجد الدافع الكافي ليدعم هذا التوجّه أو ذاك. إن مجتمعاً ليس فيه تنوع، وليس فيه معارضة للسلطة الحاكمة، هو مجتمع معطّل، غير منتج، تجري فيه الحياة مجرى من قلّت عزيمته وضعفت قواه. ولقد مثلت حركة الشباب، التي ناضلت من أجل قانون انتخابي جديد يكون أكثر تمثيلاً، أملاً في إطلاق دينامية جديدة في المجتمع، وهو ما حصل في الضغط من أجل قانون الدوائر الخمس، رغم النتائج التي أدت إليها هذه الانتخابات، والتي لم تكن إلا لأن قسماً كبيراً من النخب في الكويت انسحب من الحياة العامة ولم يشارك في الانتخابات، ولأن ما سبق الانتخابات من تصرفات قامت بها السلطة، سواء في موضوع تأبين عماد مغنيّة وتداعياته أو طريقة التعامل مع القبائل، أدّت إلى اصطفافات بعيدة عن النظر إلى المصلحة الوطنيّة، وأمعنت في تقسيم المجتمع على أساس إثني بدل توحيده، وهذا أمر أعتقد أن أطرافاً في السلطة أرادته لإيصال الناس إلى نتيجة تقول: أريحونا من هذا البرلمان ومن الدستور. إنني في هذه المحطة الثانية من مذكراتي، ورغم الإحباط الذي وصلنا إليه، حيث عدنا لنرتد من الدولة إلى الإمارة، فإنني متفائل، متفائل بدور مهم يلعبه شباب الكويت، وانتفاضة سلميّة على الأوضاع القائمة تعيد وضع الكويت على المسار الذي كافحنا من أجله. وموضوع الشباب، موضوع كبير الأهمية عندي، أفردتُ له خاتمة هذا الكتاب، وآمل أن أستطيع قراءة هذه التجربة والدور المطلوب منهم وتقديم كل ما أستطيع لهم، لحاضر هذا البلد، فالحاضر هو أساس المستقبل، ولا يتوهمنّ أحد أن مستقبلاً قد يأتي من دون أن يؤسس له الحاضر. * * * في الجزء القادم من الحلقات أركّز على ثلاث مسائل: الأولى: موضوع العمل الوطني والقومي، وهو الأمر الذي أدى ضعفه إلى الضعف الحاصل في المجتمع، حيث يحصل العزل، ويصبح الكويتيون شيئا فشيئا أكثر انشغالاً بهموم خاصة وصغيرة، ويفقد المجتمع حيويته ويغرق في هموم تزيد الناس ابتعاداً عن الحياة العامة التي هي عماد مشاركة المواطن في بناء وطنه الذي هو مستقبل أبنائه وثروتهم الأكثر أهمية من أي ثروة. وموضوع العمل الوطني يحتاج إلى تضافر جهود الخير الكثيرة، لمناقشة سبل إعادة الحياة السليمة إلى المجتمع حيث تكون هناك سلطة ومعارضة، وتكون هناك قوى اجتماعية تتقدم بالمطالب، وتسعى بكل وسائل الضغط السلمي إلى تحقيقها، فهكذا تتقدم الأمم وليس بالانكفاء، ولا بشراء الناس، ولا بالانفجار الاجتماعي الذي لا يولّد سوى تدمير المجتمع. الثانية: كيف استمرت الحياة الدستوريّة والنيابية والسياسيّة، وكيف بدأ الضغط من أجل التراجع عن الإنجازات التي تحققت. وكيف أنه، كما تطوّر وضع الكويت مع المدّ الذي ميّز العمل الوطني والقومي، فإن التراجع كان مترافقاً مع ضعف هذه القوى والتأثير الذي أحدثه تبدّل القوى على المستويين الإقليمي والدولي، وساهمت فيه دول الجوار التي لم تكن راضية عن تجربة العمل الدستوري والبرلماني في الكويت. أما الثالثة فهي مرحلة الغزو الصدّامي للكويت. إن ما أردته من هذا الكتاب بجزءيه، أن يكون مادة يستفيد منها الشباب والأجيال القادمة، لقراءة تجربة العمل السياسي في بلدهم، ولم يكن بذهني إطلاقاً تصفية أي حساب مع أيّ كان، لأنني لم أعارض يوماً لدوافع شخصيّة، بل كان هدفي مصلحة الكويت، اليوم وكل يوم أدعو إلى الوقوف إلى جانب كل من يسعى إلى جعل المجتمع الكويتي مجتمع مواطنين لا مجتمع رعيّة، سواء كان حاكماً أو محكوماً. غداً: ضمور العمل الوطني