استدعاء الفتاوى لخدمة المواقف والمصالح، أخطر ما يمكن أن يصيب أمة من ممارسات، ويتلاعب بمصير الناس ومستقبلهم، لذلك نريد من نواب التيارات الإسلامية بمختلف أطيافها ومنظري النظام المصرفي الإسلامي الذي ابتدعوه أن يوضحوا سبب عدم وقاية نظامهم ذلك لمصارفهم وشركاتهم.

Ad

كل تشريع اقتصادي يصدر عن مجلس الأمة منذ سنوات، كانت الأغلبية المشكَّلة فيه من تيار الإسلامين ومناصريهم، تفرض أن يكون فيه مادة تنفيذية تنص على أن تتم التعاملات المالية وفقاً للشريعة الإسلامية، وعندما يشتدّ الجدل حول هذه المادة في القانون كانوا يبررون ذلك بأنه تلبية للجانب الشرعي، وتحقيقاً للأمان المالي كون النظام الإسلامي لا يدخل في المجازفات الربوية والمضاربية.

وعند اندلاع الأزمة المالية العالمية أخيراً، توقع معظم المنخرطين في الاستثمارات التي تعمل وفقا للشريعة الإسلامية بأنهم سيكونون الأكثر أماناً والأقل تضرراً من الأزمة، لأن ما تسبب بها عالمياً ناتجٌ عن المغالاة في شراء القروض والرهونات وبيعها وضمانها في «وول ستريت» ابتداءً، وانعكاسه على من دخلوا في تلك المعاملات حول العالم لاحقاً، وهي معاملات لا تتفق مع الشريعة بالطبع، وظنوا أنه لا يمكن لتلك الشركات أن تتورط فيها، ولكن كانت المفاجأة بأن الشركات الاستثمارية، التي تعمل وفقاً للشريعة الإسلامية، كانت أول المتضررين في الكويت والدوحة وأبوظبي والرياض وأسواق أخرى من الأزمة، بل إن ديون إحدى هذه الشركات في الكويت ناهزت الـ600 مليون دولار، وهي من أولى الشركات المعرضة للإفلاس والتصفية، وضياع حقوق المساهمين فيها، بالإضافة لأوضاع الصناديق الاستثمارية الإسلامية المزرية التي كانت تستخدم أموالها في شراء الشركات التي كانوا يؤسسونها، والتي إن لم يتم إنقاذها بالإجراءات الحكومية المرتقب اتخاذها عبر قانون الاستقرار المالي، فإن أموال الناس ستصبح أثراً بعد عين.

ما قيل في النظام المصرفي الإسلامي منذ ابتداعه في السبعينيات من القرن الماضي، متزامناً مع استدعاء الدين للسياسة كثيرٌ، فالجدل حول النظام المصرفي الحديث ومقارنته بأحكام دينية تتعلق بالربا والمضاربة وخلافه، كان حيالها صولات وجولات، وأبحاث من علماء أفاضل مثل مفتي مصر السابق الشيخ فريد نصر والشيخ محمود شلتوت والشيخ جاد الحق، والشيخ محمد سيد طنطاوي ومفتي مصر الحالي الشيخ علي جمعة في فتواه الأخيرة في يوليو 2007 والتي تعرض على إثرها لهجوم وانتقادات كبيرة من الجوقة المعروفة، وتناولت تلك الدراسات والفتاوى الفرق بين توصيف الربا المحرّم في الشرع، والفائدة البنكية القائمة على الدورة الإنتاجية الحديثة، وتمويل شراء السلع المعمرة وخلافه.

المهم أنه كما استقر دور الدين في السياسة، كانت له الغلبة أيضاً في الاقتصاد، وانتشرت التقليعة وكثر زبائنها، وبدلت الأسماء دون المضمون، فأصبحت مرابحة وتورقا... إلخ، وسعى الجميع ليتحول إلى شركة أو مصرف يتفق مع الشريعة الإسلامية، وجهزوا لوائح بأسماء شركات يتفق نشاطها مع الشريعة الإسلامية، ليقنعوا «الشياب» و«العجائز» و«الملتزمين» بإيداع أموالهم فيها... وها هو اليوم التورق يتحول إلى تورط للمودعين فيها! ولا يختلف وضع تلك الشركات عن مثيلاتها التقليدية إن لم يكن أسوأ في أغلب الحالات، فأين هو الاختلاف والأمان الذي حققه من يدعون بأنه النظام المالي الإسلامي المنقذ للعالم؟

ولكن الفصل الجديد من استدعاء الدين في شؤون الحياة السياسية اليومية والاقتصاد المعاصر في الكويت، هو ما يُتَناقل من حرب الفتاوى بين النائب السلفي خالد السلطان وزملائه النواب السلف وغيرهم، بشأن حكم الشرع تجاه شراء أو جدولة قروض المواطنين، والتي بدأها في 2007 زميله السلفي الوزير الحالي ورئيس اللجنة المالية الأسبق أحمد باقر، عندما استدعى عميد كلية الشريعة د. محمد الطبطبائي من سلم اللجنة التعليمية على عجل، ليفتي في قاعة اللجنة المالية بعدم جواز شراء أو إسقاط القروض عن المواطنين، ليبرر بعد ذلك رفض اللجنة للمشروع المقدم بهذا الشأن.

واليوم نرى نتيجة التلاعب في شؤون عقيدة الناس واستدعاء الفتاوى لخدمة المواقف والمصالح، وهي أخطر ما يمكن أن يصيب أمة من ممارسات، ويتلاعب بمصير الناس ومستقبلهم، لذلك نريد من نواب التيارات الإسلامية بمختلف أطيافها ومنظري النظام المصرفي الإسلامي الذي ابتدعوه أن يوضحوا سبب عدم وقاية نظامهم ذلك لمصارفهم وشركاتهم، وأصابهم الضرر كما أصاب مؤسسات ما يسمونه بنظام الربا والمضاربات في الأزمة الحالية... فهل عندكم مبرر أو تفسير تواسون أو تريحون به من ورطتموهم؟

ونقول للناس: اصحوا من غفلتكم... فإن الإسلام دين الاجتهاد والتفكر فاطلعوا على الآراء والاجتهادات المتنوعة... ولا تتحجر أفكاركم خلف سحر من كثر كلامه في الدين، وتكاثرت على سحنته ملامح التدين... وذلك عندما تأخذون قراركم السياسي «الانتخابي» أو الاقتصادي بعد هذا الدرس الذي سيدفع الكثيرون ثمناً غاليا له مالاً، ولكن الأخطر أن ندفع أثماناً باهظة في المستقبل بضياع أوطان وتدمير مقدراتها بنفس هذا الفكر السائد حالياً.