بوتين وحرب الميداليات الذهبية

نشر في 25-08-2008
آخر تحديث 25-08-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت تُـرى ما هو المغزى الحقيقي من «حرب الأولمبياد»، المعروفة أيضاً بالغزو الروسي لجورجيا؟ لا شك أن الحرب ذاتها كانت متوقعة وكان وقوعها مؤكداً. وكانت نتائجها واضحة بالقدر نفسه.

لابد أن ندرك أولاً أن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين مازال ممسكاً بزمام السلطة في موسكو. وقد يمارس لعبة «الشرطي الطيب والشرطي الفاسد» مع الرئيس ديمتري ميدفيديف، ولكن «الشرطي الفاسد» بوتين هو الزعيم الحقيقي.

ثانياً: لا يخفى على أحد أن بوتين لا يطيق الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، الذي نُـقِر بأنه ليس بالرجل الذي قد ينال إعجاب المتعاملين معه بسهولة. ولقد رأي الروسي أن الجورجي أصبح أضخم مما ينبغي له، فانتظر حتى بدرت عن ساكاشفيلي البادرة التي جعلته ينقض عليه وعلى بلاده الفقيرة انقضاض الصقر على الحمامة.

ثالثاً: ظلت روسيا تثير المتاعب والاضطرابات في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا لأعوام طويلة. فموسكو تريد أن تظل جورجيا ضعيفة. وهي تلعب الدور نفسه في ترانسنيستريا لإضعاف مولدوفا. ولو كان أي طرف خارجي قد حاول تنفيذ مثل هذه التكتيكات في الشيشان، كان الروس ليعلنوا عن غضبهم بكل وضوح.

رابعاً: إن زعماء روسيا اليوم، مثلهم كمثل قياصرة القرن التاسع عشر، يرغبون في خلق نطاق من النفوذ حول حدودهم. وعلى هذا فهم يرون أن الدول التي كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية الروسية في إطار الاتحاد السوفييتي لابد أن تتمتع اليوم بقدر محدود من السيادة. والحقيقة أن الرسالة التي بُـثت من جورجيا إلى أوكرانيا وجمهوريات آسيا الوسطى كانت صاخبة ومسموعة بكل وضوح.

عارضت روسيا بصورة خاصة انضمام جيرانها إلى منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو). ويتساءل الروس: «من هو العدو الذي يواجهه «الناتو»؟ وما هي الجبهة الأمامية التي يحارب فيها الحلف؟ هل نحن العدو حقاً؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف ينبغي أن يكون ردنا؟ كان لتصرفات روسيا تأثير عكسي مناقض للمقصود منها في الأساس؛ إذ إن غزو جورجيا كان سبباً في تعزيز حجة حلف «الناتو» فيما يتصل بسعيه إلى التوسع.

خامساً: إن جورجيا ذاتها تشكل جسراً على قدر عظيم من الأهمية إلى موارد الطاقة في بحر قزوين بالنسبة لكل هؤلاء الأوروبيين الذين لا يريدون الاعتماد تماماً على خطوط الأنابيب التي تسيطر عليها روسيا. الحقيقة أن جورجيا تمثل عنق الزجاجة بالنسبة لروسيا فيما يتصل بسياستها في استخدام النفط والغاز كسلاح استراتيجي في سياستها الخارجية، وهو ما حدث بالفعل وعلى نحو متكرر. كانت وكالة البحوث الدفاعية السويدية قد أصدرت تقريراً أكدت فيه أنه من بين 55 حالة انقطاع متعمد في إمدادات الغاز، أو تهديد واضح بقطعها، أو تلاعب بالأسعار من جانب روسيا منذ عام 1991، كانت 11 حالة فقط غير مرتبطة بالسياسة.

كانت ردود الأفعال الأميركية قوية- على المستوى الشفهي على الأقل- في مواجهة غزو روسيا لجارتها، وهو الغزو الذي سعى به الجيش الروسي أولاً، إلى تأمين الأوضاع لميلشيات أوسيتيا الجنوبية غير الرسمية التي تساندها روسيا، لكي تحرق وتسلب الممتلكات الجورجية. بيد أن أميركا ليست في موقف قوي يسمح لها بالذهاب إلى ما هو أبعد من الردود الشفهية القوية. فقد خسرت أميركا سلطتها الأخلاقية أثناء سنوات ولاية بوش، ولن يكون بوسعها أن تستعين بالمزيد من القوات على الأرض للدفاع عن سيادة جورجيا، وحتى لو كان ذلك بوسعها فلن يؤدي إلا إلى تصعيد الأزمة.

تفاقم ضعف موقف أميركا في غياب الرد الأوروبي القوي الموحد. إلا أننا نستطيع أن نتغاضى عن ذلك.

إن روسيا تدرك تمام الإدراك أن أوروبا ليست أكثر من ظاهرة صوتية، حين يتصل الأمر بإدارة سياسة خارجية أمنية مشتركة جادة. فقد نجحت روسيا في التلاعب بأوروبا لسنوات فيما يتصل بمسائل الطاقة، فعقدت اتفاقيات ثنائية مع البلدان الأضخم وقوضت بذلك الجهود الرامية إلى التوصل إلى سياسة أوروبية مشتركة في التعامل مع قضايا الطاقة.

لا شك أن أوروبا تحتاج إلى الغاز الروسي، ولكن روسيا تحتاج إلى المستهلك الأوروبي، ولسوف تسعى عاجلاً وليس آجلاً إلى اجتذاب المزيد من الاستثمارات الأوروبية في مجالات استكشاف الطاقة واستخراجها.

لا أحد من العاقلين في أوروبا يرغب في إحياء الحرب الباردة. ولكن الاستفزاز لم يكن من جانب الاتحاد الأوروبي. فليست ألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا هي التي تغزو جاراتها.

ولكن يبدو أننا الأوروبيون قد نسينا تاريخنا. ففي أوقات أخرى وقفنا كالمتفرجين بينما أصرت قوة أوروبية عسكرية النـزعة على أنها لديها الحق في التدخل حيثما شاءت، لحماية مصالح هؤلاء الذين زعموا عرقية مشتركة من البلقان إلى القوقاز.

يزعم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أنه كان السبب في جلب السلام إلى جورجيا. إلا أن الأمر يبدو مثيراً للشكوك، إذ إن الاتفاق الذي أنهى الاقتتال يسمح للقوات الروسية بالبقاء في هذه الدولة المبتلاة لسنوات.

إذن، ماذا يتعين على أوروبا أن تفعل على وجه التحديد؟ ربما يتعين على الأوروبيين في البداية أن يتوخوا الحذر. إلا أنني أشك أن أوروبا قد تذهب إلى ما هو أبعد من التصريحات الرسمية ذات العبارات القوية.

هل نكف عن الحديث عن قيمنا المشتركة المزعومة مع روسيا؟ هل نضغط على زر توقيف أي مناقشة حول كيفية دمج روسيا بالكامل في المجتمع الدولي؟ هل نقطع بعض اتصالاتنا بروسيا، وهل نعيد النظر في عضويتها في مجموعة الدول الثماني، أو نعطل التحاقها بعضوية منظمة التجارة العالمية أو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أويسيد)؟ هل نصرف النظر في الوقت الحالي عن المفاوضات بشأن اتفاقيات الشراكة والتعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا؟

أظن أن الرد على كل من هذه الأسئلة سوف يكون بالقطع «كلا». فلسوف تستمر الأعمال المعتادة من دون تغيير يذكر بينما يواصل الأوروبيون بابتهاج في السنوات المقبلة استعداداتهم للألعاب الأوليمبية الشتوية التي ستقام في سوتشي، التي تقع على مرمى حجر من الصواريخ والدبابات الروسية القابعة على أرض جورجيا. وفي الوقت نفسه سوف يستمر الأوروبيون في التحدث عن دورهم الحيوي الحاسم في الشؤون العالمية.

إن الأسلوب الذي تتعامل به أوروبا مع مثل هذه القضايا ضعيف إلى حد الوهن، ولسوف يتسبب في إحداث مشاكل أضخم في المستقبل. وهاهو بوتين قد فاز بالميدالية الذهبية في رياضته المفضلة- التنمر على جيرانه الأصغر حجماً.

* كريس باتن | Chris Patten ، مفوض الاتحاد الأوروبي الأسبق للعلاقات الخارجية، ورئيس حزب المحافظين البريطاني، وآخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top