سبوتنيك الحبيبة
تدور روايات الكاتب الياباني «هاروكي موراكامي» حول عالم خليط من الواقعي والماورائي، وكل الحيوات الواقعية مرتبطة بحيوات أخرى ماورائية... كأن الإنسان مشطور إلى اثنين، الواقعي وظله، ودائما هناك من يبحث عن ظله، جزئه الناقص، عن عدم اكتماله المفقود والذي يناديه ويصرخ عليه من بقعة ما خفية، وعلى أبطاله أن يبحثوا عنه حتى تكتمل نواقص هوياتهم.
ولأن الماورائي إحساس غير مدرك كنهه وصعب التحقق منه إلا في بناء فنتازي يتحكم في عالم الرواية، وبما أن هذه الفكرة أو هذا الهاجس هو المسيطر الساكن، والمقيم الدائم في وعي الروائي «هاروكي موراكامي»، نجد أن أغلب أعماله تدور حولها... دائما هناك شيء يختفي في غموض، ومظاهر واقفة أو مشتركة ما بين عالمين الطبيعي والغيبي، بين ما هو هنا وما هو هناك. هذه الفكرة مستولية على الكاتب، وربما هو معايشها معايشة حقيقية، أي أن تركيبته النفسية وأحاسيسه بالفعل مشطورة ما بين عالمين، وأنا مؤمنة بهذه الحالة فهي تصيب الكثير من الفنانين والروحانيين والصوفيين وغيرهم... وستبقى كتاباته تدور حولها لأنه في ظني مازال يحاول اللحاق بها للاكتمال معها... وهذه الحالة تشبه حالة الرسام حين تستولي عليه فكرة معينة ولا تنتهي منه إلا بعد أن يفرغها في تنويعات عديدة حتى يجف جذرها وينتهي منها وتفرغ ذاتها منه، ساعتها ستمنحه الراحة وحرية الانفصال من مشيمتها. في رواية «سبوتنيك الحبيبة» نجد الكاتب يدخل في تنويعة أخرى، نغمة مختلفة لكنها مازالت تلعب على السلم الموسيقي ذاته.. فقْدٌ واختفاء وأرواح ضائعة في جحيم انقسامها، الرواية تدور حول فتاتين إحداهما تعشق الأخرى من دون علمها، تذهبان في رحلة عمل إلى أوروبا لشراء النبيذ، وفي إحدى الجزر اليونانية تختفي الفتاة العاشقة في ظرف غريب، ومن هنا ندخل في لعبة «هاروكي موراكامي» المفضلة، غموض وحالة بحث في عوالم سحرية، وفي النهاية كالعادة لا توجد حلول... فكيف توجد الحلول للأمور الغيبية الماورائية؟ لكن قدرة الكاتب تعطي مصداقية لكل ما هو غير قابل للتصديق، لأن كل شيء في هذه الدنيا يحتمل صدق وروده أو نفيه في النفي... لا شيء كامل في عدم تحققه، لأن اليقين لا يمكن التيقن منه... وكل ما هو يقيني هو قفل على باب المعرفة، لكن كل الخوف يأتي من الوصول إلى ذلك الطريق المسدود الذي يقود في النهاية إلى لا مكان، خصوصا مع استنزاف الفكرة لعمقها واستهلاك كل ما فيها فتصبح مملة للقراء، وهذا ما لاحظته في هذه الرواية من شعوري بتكرار ذاتها في كتابات سابقة، وهو ذات المطب الذي وقع فيه الكاتب باولوكويلو، وهذان مقتطفان من «سبوتنيك الحبيبة»: * «كنت حية في الماضي، وأنا حية الآن، أجلس هنا أتحدث معك، لكن ما ترينه هنا ليس أنا الحقيقية. إنه مجرد ظل لما كنت عليه، أنت تعيشين حقا، أما أنا فلا أعيش، وحتى هذه الكلمات التي أقولها الآن تبدو فارغة كصدى». * «غير أني في الغد سأصبح شخصا آخر، وليس الشخص نفسه أبدا، ولن يلاحظ أحد ذلك عند عودتي إلى اليابان، على القشرة لن يتغير شيء، لكن شيئاً في الداخل احترق واختفى. سفكت دماء وولى شيء من داخلي، خرج ذلك الشيء ووجهه إلى الأرض من دون كلمة، باب يُفتح وباب يُغلق، يطفأ ضوء، وهذا آخر يوم للشخص الذي أنا عليه الآن، آخر شفق، عندما يأتي الفجر، لن يعود الشخص الذي أنا عليه الآن موجودا، شخص آخر سيحتل هذا الجسد».