-1-

Ad

الفساد يغطي العالم كله، ولكن بدرجات متفاوتة، فلا دولة في العالم تخلو من الفساد حسب تقرير «منظمة الشفافية الدولية»، ولكن تبقى الديمقراطية، وحرية الرأي، هما الوسيلتان الأكثر نجاعة لمحاربة الفساد، حيث تسمح الديمقراطية وحرية الإعلام بشكل عام، في الكشف عن الفساد والمفسدين، وفضح عملياتهم، وليس التكتم عليها وإبقائها في زوايا مظلمة، لعدم توافر الإعلام الديمقراطي الحر. ومن هنا يكثر الفساد ويستشري في العالم الثالث، لأنه لا توجد مؤسسات دستورية ولا إعلام حر يراقب ويحاسب ويعاقب، وفي ماضي العراق الدكتاتوري كان العراق يغرق في الفساد، «ولا حِسْ ولا خبر»، أما اليوم وفي ظل الديمقراطية العراقية، فإن الإعلام العراقي قبل غيره يكشف لنا، عن عمليات الفساد وروائحها النتنة.

-2-

في العراق، وقبل 2003، كان الفساد كما هو في كل دول العالم الثالث، مستشرياً و«مستغولاً» كذلك؛ بمعنى أنه كالغول الذي يلتهم كل شيء أخضرَ ويابساً. وعندما انبلج فجر العراق الجديد في التاسع من إبريل 2003، كان فيروس الفساد مستشرياً في كل جسم الدولة العراقية، ولا مجال للقضاء عليه، إلا بعقاقير فعّالة، وتستدعي وقتاً طويلاً لعلاقتها بالتربية الوطنية. وقد شجع غياب الشفافية، والديمقراطية، وحرية الرأي، والإعلام في السنوات الطويلة، التي كانت قبل ميلاد العراق الجديد الفساد، على أن «يتشرعن» في العراق الجديد؛ أي أن يصبح عملاً مشروعاً، وقيمة لا هي بالرذيلة ولا بالفضيلة. كما شجع نظام الحكم البعثي-الصدامي السابق على الفساد، وعلى مدِّ حبل الفساد، لرجال الدولة والموظفين، ولكن ظلَّ طرفه في قبضة صدام حسين، يمُدَّه متى شاء، ويقبضه متى شاء، لكي «يكسر» به عين من يدّعي الشرف، والشفافية، ونظافة الكف، ممن هم حوله.

وبسبب غنى العراق وامتلاكه ثروة كبيرة، راح رجال الدولة والموظفون، من الكبير والصغير، ينهب، ورئيس الدولة- هو وعائلته أكبر الناهبين الفاسدين- يعلم كل يوم من هم المفسدون، ويستعمل إفسادهم كعصا لاسكاتهم عن فساده الأكبر هو. فالكل سارق وفاسد، ولا فضل لسارق على فاسد، إلا بحجم ما سرق، وفساد الحاشية أكبر ضمان للحاكم للبقاء في الحكم.

-3-

لقد أظهرت لنا تقارير «منظمة الشفافية الدولية» الواحد تلو الآخر، وكان آخرها تقرير عام 2007 القائل، إن العراق أكثر دول العالم فساداً، وقال ديفيد نوسبوم المدير التنفيذي لـ«منظمة الشفافية الدولية» إن التقارير تشير إلى أن الفساد في العراق متفاقم، وحين ترتفع مستويات العنف، لا ينهار الأمن فحسب، بل أيضاً المراقبة والتوازنات، وتطبيق القانون، وعمل المؤسسات، مثل السلطة القضائية والتشريعية. إذ إن الجميع يتعرضون للضغط، ويتضرر النظام بدوره الذي يعمل على منع الفساد.

-4-

وفي هذه الأجواء الإدارية والسياسية الموبوءة، حذَّرت «منظمة الشفافية الدولية»، من أن عمليات إعادة اعمار العراق، يمكن أن تتحول إلى «أكبر فضيحة فساد في التاريخ»، وقالت المنظمة إن هناك خطوات رئيسة، يجب أن تُتخذ بصورة عاجلة، قبل أن يتحول الفساد المحيط بالعملية إلى وباء، لا يمكن التخلص منه.

والمصيبة الكبرى في العراق، أنه بعد خمس سنوات من تحرير العراق، أصبح الفساد في رأس السمكة- كما يقول الفرنسيون- وهنا الخطورة الكبرى.

وقال التقرير السنوي لـ«منظمة الشفافية الدولية لعام 2007» إن هناك دلائل على وجود «فساد على مستوى عال» في عراق ما بعد الحرب، وحثَّت المنظمة الدول المانحة والقوات المتعددة الجنسية، على أن تكون أكثر حزماً في التعامل مع تلك الظاهرة، وقالت: إن المقاولين الدوليين العاملين في العراق، يجب أن يلتزموا بقوانين منع انتشار الفساد، وإن إدارة ريع النفط العراقي، يجب أن تكون أكثر شفافية، وأن تخضع للمحاسبة.

-5-

وإذا كان نظام حكم الدكتاتور السابق، يُشجِّع بطريقة غير مباشرة، ويغُمض عينيه عن فساد كبار رجال الدولة، لكي يكسب تأييدهم وسكوتهم، ويقدم لهم رشا غير مباشرة، لسكوتهم على فظائعه، فإن وجود حكومة ضعيفة الآن، وسوق سوداء، وميراث من السلطوية، تُعدُّ توليفة خطيرة جداً لانتعاش الفساد واستشرائه.

فكما كانت حال العراق في عهد الدكتاتورية، فقد انتعشت الرشوة على جميع المستويات منذ الإطاحة بصدام. واعترف بعض المقاولين وبعض موظفي الوزارات بوجود الفساد بين ظهرانيهم.

-6-

وقد لعبت الإدارة الأميركية دوراً لا يُنسى ولا يُغتفر، في استشراء الفساد في العراق الجديد. فقد انتقد تقرير «منظمة الشفافية الدولية» لعام 2007 بصراحة ووضوح، سياسة الولايات المتحدة، في منح عقود الاستثمار في العراق، ووصفها بأنها سرية، وبأنها منحازة لبعض الشركات الكبرى، وتتفق «منظمة الشفافية الدولية»، مع بعض هيئات الأمم المتحدة، مثل «الهيئة الاستشارية الدولية للأمم المتحدة»، التي قالت في تقرير لها صدر في يناير 2005، إن الولايات المتحدة أعطت عقوداً للاستثمار في مجال النفط لشركة هاليبورتون، وشركات أخرى من دون إجراء مناقصة، وهذه واحدة من جنايات سياسة الإدارة الأميركية على العراق، والتي تجبُّ ما قبلها من حسنات وإيجابيات، ولكن وسائل الإعلام الأميركي، لم تترك مثل هذه الفضائح تمرُّ بسلام، وكتمان، وسرية، دون أن تعلنه وتفضحه.

ففي 18/12/2008 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقاً واسعاً، عن الفساد في العراق، قالت فيه: إن العراق يغرق في الفساد والرشوة، لدرجة أن العراقيين يستغلون كل شيء تملكه، أو تبيعه، أو تشتريه الحكومة العراقية المركزية.

وذكرت الصحيفة في تقرير لها من بغداد، أن العاطلين عن العمل، يدفعون مبلغ 500 دولار، كرشوة مقابل الدخول إلى سلك الشرطة. وأن العائلات تبني بصورة غير شرعية منازل على أراضٍ مملوكة للدولة، وأن كل شيء تقريباً تشتريه الدولة أو تبيعه، يمكن الحصول عليه من السوق السوداء.

وأضافت الصحيفة، أن أدوية السرطان التي توفرها وزارة الصحة العراقية تُباع بحوالي 80 دولاراً في الصيدليات، وتباع عدادات الكهرباء التي توفرها وزارة الطاقة العراقية بمبلغ 200 دولار، وحتى الكتب المدرسية للصف الثالث الابتدائي التي توفرها وزارة التربية العراقية، تُباع في المكتبات بثلاثة أضعاف ما كانت تتقاضاه الحكومة.

فهل يستطيع العراق الجديد أن يقضي على ضباع الفساد والرشوة، كما قضى على ذئاب الإرهاب التي فتكت بالعراق والعراقيين؟

* كاتب أردني