شتّان ما بين الديمقراطيّة الدّستوريّة وتلك الانفلاتيّة التّوافقيّة!

نشر في 25-05-2008
آخر تحديث 25-05-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ

الدّيمقراطيّة الدّستوريّة الكويتيّة، بغض النّظر عن أي ممارسة أو سلوك مناف للدّيمقراطيّة لدى أفراد أو هيئات؛ أثبتت أنّها الأضمن والأبقى عمرا، وعلى رغم العديد من القطوعات التي شابت مسيرتها، فإنّ حيويّتها كانت تتفوّق دائما على عوامل وعناصر الجمود أو الارتداد والنّكوص.

سواء جازت أم لم تجز المقارنة بين الديمقراطيّة الكويتيّة ومثيلتها اللبنانيّة، فإنّ واقع ومعطيات الإشكالات الناشئة عن طبيعتيهما: الدّستوريّة في الحالة الكويتيّة، والإشكاليّة الانفلاشيّة أو الانفلاتيّة التي تتسمّى بـ«التوافقيّة» في الحالة اللبنانيّة، لا شكّ أنّها تغري بتلك المقارنة، وإن لم تكن الإشكالات التي شابت أو اعترضت مسيرتها في البلدين متقاربة أو من طبيعة واحدة، تتغاير مسبّباتها وبالضرورة مآلاتها.

ولئن كانت تنتهي الإشكالات التي تشوب الديمقراطيّة الدستوريّة الكويتيّة، على الدّوام، استنادا إلى المرجعيّة الدّستوريّة الأعلى (الدّستور)، ونجحت، بل حسمت تلك المرجعيّة ما سيظلّ مقيما ومثيرا للنزاعات والفتن في بلدان أخرى، كلبنان على سبيل المثال أو في فلسطين والعراق الواقعان تحت الاحتلال، فلأنّ غياب المرجعيّة، أو ضعف تقاليد ديمقراطيّة راسخة وملزمة، أو غياب المرجعيّات من الأساس، أدّى ويؤدّي إلى استمرار الإشكالات الناتجة عن الانقسامات السّياسيّة، أو الخلافات النّاشئة في أطر السلطة القائمة في تلك البلدان، من دون التمكّن من إيجاد المخارج السّياسيّة الكفيلة بإعادة المسيرة الدّيمقراطيّة إلى سكّتها الصحيحة.

أمّا إشكالات الدّيمقراطيّة اللبنانيّة التي تتجلى في غياب المرجعيّة النّاظمة لها (الدّستور)، فهي تحتّم ضرورة إصلاح وتصحيح أو تصويب مسار العلاقات الدّاخليّة بين القوى السّياسيّة؛ تعويضا عن غياب تلك المرجعيّة، في ظلّ أزمة مقيمة من أزمات النّظام السّياسي البنيويّة العميقة، التي لا يمكن معالجتها بغير صيغة جذريّة؛ تعيد الاتّفاق على ثوابت الوطن وسيادته واستقلاله، واستقلال السّلطة فيه عن تبعيّتها لمصادر القوّة الداخليّة (الإقطاع الطّوائفي والزّعامات المتمذهبة والطغم الماليّة) ومصادر قوى الاستتباع الخارجية؛ الإقليميّة منها والدّوليّة، فلم يعد الوضع الراهن (الّلبناني) يحتمل رفاهيّة الحديث عمّا بات يعرف بـ«إنقاذ الصّيغة اللبنانيّة» من دون إنقاذ الوطن... والدّولة، لا سيّما في غياب رؤية مستقبليّة تحدّد لأطراف السّلطة والمعارضة أدوارهما في بناء صرح الدّولة؛ بعيدا عن تحاصصاتهم وخصاماتهم واختلافاتهم.

وهذا بالتأكيد يقتضي ردم الكثير من الهوّات التي أمسى عليها الوضع الدّاخلي اللبناني، وبما يفيد في خلق أو اختراع تماسك جديد؛ أقوى من سابقاته بين اللبنانييّن، للوصول إلى اتفاق تسووي جديد، لا يكون مجرّد هدنة من هدنات الصّراعات الداخليّة. والأهمّ الانطلاق من الاتّفاق التّسووي الراهن -في حال إنجازه- كلحظة تأسيسيّة مفصليّة جديدة، تستعاد من خلالها أجواء الثّقة المتبادلة بين الأطراف المعنيّة بالصراع على السّلطة والسّاعين إلى الاستفادة من مغانمها بين طرفي السّلطة (الموالاة والمعارضة) لمصالح داخليّة، كما لمصالح القوى الخارجيّة الدّاعمة لها.

المطلوب صيغة دستوريّة، أو صيغة ترقى إلى مستوى الدّستور، وبما يتجاوز الصيغة الأولى للعام 1943، والثّانية للعام 1989 (الطائف) اللتين لم تستطيعا أن تثبتا قدرتهما على حماية السلم الأهلي وصيانة الاستقرار الدّاخلي، ما يعني أنّ إنجاز التّسوية أو الصّيغة التي يجري العمل على تظهيرها اليوم، ينبغي أن تنطلق من كون الأطراف جميعها تشكّل عماد العقد السّياسي والاجتماعي والمواطني، بمعنى الارتقاء إلى مستوى إنجاز رؤية استراتيجية لوطنية ناجزة، عمادها الدولة الوطنيّة المحكومة لسقف من عقد وطني ناجز، من شأنه إعادة الاعتبار إلى الحل الوطني الذي يأخذ مصالح وتطلّعات الشّعب اللبناني بكل طوائفه ومذاهبه واتّجاهاته بعين الاعتبار الوطني والمواطني فقط لا غير.

لهذا... فإنّ الدّيمقراطيّة التي يشكّل الدّستور رأس حربة حمايتها وصيانتها، وينظم عقدها الاجتماعي والسّياسي والوطني، أبقى وأضمن وأطول عمرا من ديمقراطيّات رخوة هشّة تنبت كالفطر، من دون أن يكون لها أيّ مرجعيّة دستورية اعتباريّة راسخة في فضاء دولتي ناجز.

والدّيمقراطيّة الدّستوريّة الكويتيّة، بغض النّظر عن أي ممارسة أو سلوك مناف للدّيمقراطيّة لدى أفراد أو هيئات؛ أثبتت أنّها الأضمن والأبقى عمرا، وعلى رغم العديد من القطوعات التي شابت مسيرتها، فإنّ حيويّتها كانت تتفوّق دائما على عوامل وعناصر الجمود أو الارتداد والنّكوص، ذلك استنادا إلى مرجعيّتها الدّستوريّة، والاحتكام إلى آليّات ونواظم احترامها تلك المرجعيّة من جانب السّلطة، وهذا ما كان على الدّوام يغذّي أمل استعادة مسيرتها وسيرورتها؛ واحدة من علامات مضيئة، في نطاق صيرورة تحوّلات تاريخيّة في بعض بلادنا، تكوّنت خلالها تجربة في الديمقراطيّة، راكمت خبراتها؛ حتّى وصلت في الكويت حد تشكيلها معلما من معالم أخرى مضيئة، قلّ نظيرها في الإقليم العربي وغير العربي المحيط بنا.

* كاتب فلسطيني

back to top