لم يكن التعامل المشترك مع الكتابة والرسم أمراً محيراً. إفلاطون قارب بينهما. الفنان الإيطالي مايكل أنجلو كان شاعراً مبرزاً. الشاعر الإنكليزي وليم بليك كان رساماً مبرزاً. روزيتّي الإنكليزي كان شاعراً ورساماً بالمقدار ذاته. قصائد ديفيد جونز البريطاني ليست أقل شهرة من لوحاته المائية. ثم الأخير ويندهام لويس (Wyndham Lewis (1957 -1880.
حين اطّلعتُ على لوحات وتخطيطات لويس في معرض غاليري البورتريت الوطني NPG الذي افتتح قبل أيام، لم أجد من بين الشخصيات الأدبية المرموقة التي رسمها لأبناء جيله واحداً يجمع بين الموهبتين. ويندهام لويس كان آخر العنقود إذن. ومعرض البورتريت المكرس لإسهاماته ضرب من استعادة، جاءت بعد خمسين سنة من الغفلة، أو المقاطعة. لأن لويس المتمرد الحرون شاء أن يستجيب برضا لأفكار هتلر وإيديولوجيته النازية، قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من ارتداده عن ميله الأحمق (وما أكثر أهواء المثقفين الحمقاء!) إلا أن الناس لا تنسى. المعرض يضم أكثر من خمسين لوحة وتخطيطاً في فن البورتريت، ولكن الذي يميزها أكثر أن لويس وضعها لنخبة من كتّاب مرحلته: إزرا باوند، تي أس أليوت، أديث سيتويل، ستيفن سبندر... ولأنه وضعها أيضاً بأسلوب جديد في الفن، يليق بجدتهم. كانت المدرسة التكعيبية آنذاك في عنفوانها، وكان لويس على تماس مع خبرتها حين عاش في باريس فترة سنواتٍ سبع، واتصل ببيكاسو وبراك. حين عاد إلى لندن في مطلع القرن كان أحد أعلام حركة الفن الطليعية، وأسس على الفور حركته «الدوّامية» vorticisim (حركة إنكليزية في الأدب والفن، بقيت فترة وجيزة. نشأت عام 1914، وكانت متأثرة بالتكعيبية والمستقبلية). ومعها أصدر أكثر من مجلة، وأثار نشاطاً في الوسط الفني والاجتماعي. أعمال البورتريت التي اقتصر عليها المعرض تكشف عن ميل عميق للمشاكسة. الناقد توم لابّوك عبر عنها باجتهاد مُستساغ تماماً: «لويس لا يؤمن بشيئين أساسيين في فن البورتريت: الجسد والتعاطف. حين أقول الجسد، أعني كل ما يتصل بالجانب الحسي أو الضعيف، الناشط والزائل في جسد الإنسان. كل دراما الحياة والموت التي شرّبها رامبرانت في بورتريته، وحين أقول «التعاطف»، أعني ذلك الشيء الذي يتمركز في العينين، والذي يُشعرنا بأنا ننظر إليهما وعبرهما، لنشارك البورتريت حياته الداخلية». موقف نقدي يجمع بين البساطة التي تيسر الفهم، والنباهة التي تُشبع الوعي، فالتعبير عن إنسانية الإنسان، والدعوة لعلاقة حميمة هما أبرز ما عرفناه في فن البورتريت، حتى جاءت مرحلة الفن الطليعي. صار البورتريت محطة تساؤلات، تشكك، وتعرية. ولذا يتوسل الفنان عنصر التشويه. حدث هذا مع التكعيبية، الدوامية، التعبيرية، السوريالية. أعتقد ان رسم الشخصية الإنسانية مادة للفن لا تنفد. لأنها تعري كلاً من الفنان والذي يجلس قبالته. روح لويس المتمردة رأت هيئات أصدقائه من زاوية نظر جد شخصية، وجد سرية. شخصية تي.أس. أليوت المتكتمة، الباطنية ببرودة أسى جليدية. استراحة إزرا باوند الحالمة، الآملة بتغيير العالم. مكابرة أديث سيتويل المستغرقة في كتاب، دون يدين لعلّة ما، وقد شاركها زخرف الديكور بالأبهة الكتوم. حدة الذهن في نظرة جيمس جويس... كل هؤلاء وُضعوا على «الكانفس» بملامح وهيئات حادة الحواف كالفولاذ، تحاذي الكاريكاتير أحياناً. في العشرينيات انصرف ويندهام لويس إلى الكتابة، وهو الأمر الذي أخفى الفنان في ظلال النسيان. وضع كتابه عن هتلر، واستعرض ميوله النازية، فزاد الظلال كثافةً. وبالرغم من عودته إلى الجادة إلا أن ضعف صحته، وضعف بصره الذي انتهى به إلى العمى التام في عام 1950، افرداه في العزلة. وضع 17 رواية، وخلف أكثر من 28 كتاباً نثرياً، وديوان شعر. واليوم لا يقل اسمه عن اسم أبناء جيله بريقاً ومركز عناية.
توابل - ثقافات
ويندهام لويس: الرسام أم الكاتب؟
07-08-2008