حاولت، ولمرات عدة، أن أقنع نفسي بأن هناك وجاهة في الهجوم الذي طال الأخ مشاري الخراز، إثر سلسلة محاضراته عن «التلذذ بالصلاة»، وتجاوَزه ليشمل مَن قاموا بتنظيم هذا النشاط، حتى انطلق غزيراً نحو الجمهور الذي أقبل عليه، ولكنني للأسف عجزت.
وما زاد حيرتي أنني عجزت عن أن أتصور أن أحداً ممَّن ساهموا في حملة الانتقاد والهجوم هذه على الخراز ومحاضراته يقول إنه ينطلق من رفض بحت للفكرة الدينية، بل إن أكثر هؤلاء قسوة في هجومه، ربما سيقول بأنه علماني، إلا أن العلماني كما نعرف يؤمن بحق الإنسان في اعتناق ما يراه مناسبا من دين، بل حتى ألا يعتنق أي دين، وأن يكون ملحداً!وبالمناسبة، فإقحامي لفكرة الإلحاد في مقالي، ليس من باب التهويل، وإنما إقرار لواقع، فالإلحاد موجود عندنا، وهو في تزايد بين الشباب، ومَن أراد أن يطلق نظره في هذه المسألة التي تستحق النظر فعلاً، فليبدأ بمقال الزميلة إيمان البداح الذي نشر منذ أيام هنا في «الجريدة» تحت عنوان: «لماذا يلحد الشباب؟».مشاري الخراز، وهو غير المنتمي تنظيمياً إلى أي جماعة، وغير المرتبط بتاريخ مثير بحسب ما علمت، لم يطرق موضوعا مثيراً ينال به من أحد، ولم يفتح جبهة على أي فئة في المجتمع، ولم يدعُ إلى تطرف ولا إلى غلو، ولم يهيّج الشباب ضد الأنظمة، ولم ينادِ بخروج على حاكم، ولا بتمرد على سلطة، بل كل ما فعله أنه قدم موضوعاً تعبدياً روحانياً يتناول علاقة الإنسان بربه يدور حول الخشوع في الصلاة، فجاء متميزاً عن غيره حيث قدمه بقالب وبأسلوب فريد حاز إعجاب الناس فتوافدوا لمتابعته.هذا الشاب ومحاضرته، إن نحن، على سبيل المثال، وضعناهما في الميزان العلماني الصرف في دولة غربية علمانية، لا يوجد فيها إلا أقلية من المسلمين، سنجد أنه مجرد محاضر مارس حريته الفكرية والعقدية في طرح ما يؤمن به من دون تشنج ولا إجبار، ليتجاوب معه مَن يريد بكل سلام وحرية.في الغرب، في مبعث العلمانية ومستقرها، يطرح الناس برامج ومحاضرات في كل مجال وميدان من جوانب الروحانيات والأفكار الدينية، والتي بعضها لا يمكن أن يصدقه عقل ولا يقبله منطق، ولا تجد مَن يمنع إقامتها، فلماذا، عندنا، ونحن في دولة دينها الإسلام، وأغلبية أهلها من المسلمين، نجد هذا الهجوم الكاسح الشرس على محاضرة من هذا النوع؟ولماذا على وجه الخصوص، أن يكون أشرس ما في حلقات هذا الهجوم، في المنتديات ومواقع الإنترنت، آتياً تحت لواء العلمانية؟ بالرغم من أن العلمانية التي نعرف لا تعادي أديان المواطنين، بل تحترمها، بأقل القليل لكونها تأتي من باب الحريات الشخصية، (يمكن الرجوع إلى مقال مميز للدكتور عمرو حمزاوي نشر هنا في «الجريدة» أمس تحت عنوان: «إعادة الاعتبار إلى العلمانية»).لا بأس أن يتم انتقاد الاختناق المروري الذي سببته المحاضرة حول المسجد الذي أقيمت فيه، ولكن تحميل المسؤولية للخراز ومحاضرته بالذات، هو شطحة كبيرة لا تصدر عن عاقل، فكلنا يعرف أن الاختناقات المرورية سمة دائمة للأنشطة الجماهيرية كلها، دينية وغيرها كمباريات كرة القدم والمسرحيات والندوات، فلماذا يهاجم الخراز ومحاضرته اليوم فقط؟!ولا مشكلة في أن يتوقف أحد عند الجماهيرية الكبيرة التي حازها الخراز في محاضراته، وأن يحلل بعدها سلوك الناس تجاه كل ما هو مختلف ومثير بشكل علمي، لكن أن يصل الحال إلى أن يُستهزأ به وأن يشكك فيه وفي مَن خلفه وأن يتهم بلا أدلة بأنه «مايكل جاكسون» جديد يسعى إلى بناء ثروة ليصبح مليونيراً إسلامياً قادماً، وأن يصل الأمر إلى تشبيه من وُجدوا في هذه المحاضرات بالمتأسلمين الذين لا يقبلون إلا الرأي الأوحد، وأن وراء هذه الحشود تنظيمات سياسية وغيرها، وأن يطرح الموضوع بأسلوب مليء بالغمز واللمز والاستهزاء، فهذا انحدار في الطرح لا يصح أن يقبله أهل الإنصاف والموضوعية، ولا يليق نشره في أي جريدة تحترم نفسها.لن أذهب مع مَن قالوا إن مدار الأمر هجوم مجرد على هذا النشاط لكونه نشاطاً دينياً فقط من قبل مَن يعادون الدين، فهذا سيقودني إلى نتائج مزعجة، إن هي بدأت فلن تنتهي، وسأكتفي بالقول إن كلي أمل أن نبقى على الأقل أناساً يحترم بعضنا بعضاً، نتذكر حقنا في الحياة والتعايش بسلام وفق قناعاتنا وما نؤمن به ضمن إطار القانون وتحت مظلة الدستور، الذي يجب أن نتذكر دوماً أنه يقول إن دين الدولة الإسلام.
مقالات
الخراز والملحدون... والتلذذ في الصلاة!
15-07-2008