أسرار التعويل الأميركي على المتصوفة 2- 2
يتغافل الأميركيون عن الطابع الجهادي والنضالي الذي ميز أغلب أفكار وممارسات متصوفة البلدان المحتلة، وهي سمة لا أتصور أن تسقط بالتقادم، ولا أعتقد أن مؤتمرات «غسيل المخ» أو «بث الأفكار المسمومة» بوسعها أن تجرف أمامها ميراث تاريخي راسخ الأقدام لمتصوفة أمة أعرق من أميركا بكثير.
ركز الجزء الأول من هذا المقال، الذي نشر الأسبوع المنصرم، على الأهداف التي ترومها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الغربيون من تشجيع الطرق الصوفية في العالم الإسلامي على حساب أنماط وأشكال التدين الأخرى، وأجملها في ثلاثة هي استغلال التقرب إلى التصوف في تحسين صورة أميركا لدى العرب والمسلمين، واستخدام التصوف في تسريب قيم العلمانية الغربية، والتوسل بالصوفية المنتشرة في شتى أرجاء العالم الإسلامي لتشجيع التحول من المذهب السني إلى الشيعي. واستعرض المقال بعض الأفكار التي استنبطناها من أقوال وتصريحات بعض المفكرين والمسؤولين الغربيين حول هذه المسألة.وقد انتقلت هذه الأفكار إلى خطاب الساسة الغربيين، فها هو رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ينادي زعماء الدول الإسلامية بأن يبذلوا قصارى جهدهم في سبيل تمكين «الإسلام المعتدل» بحيث يصبح هو التيار الرئيسي Main Stream في العالم الإسلامي. أما كولين باول وزير خارجية أميركا السابق، وعراب مشروع «الشرق الأوسط الموسع»، فقد كشف في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي خلال شهر نوفمبر من عام 2001 عن تبلور رؤية أميركية للمجتمعات الإسلامية تقوم على تحجيم المتطرفين والسلفيين وتقوية شوكة «المعتدلين». وجاء الدور على لجنة الحريات الدينية في الكونغرس لتدعو الدول العربية جهارا نهارا إلى تشجيع الطرق الصوفية.وبدأت ترجمة هذه الرؤية في مؤتمرات موسعة، استضاف أحدها معهد نيكسون للدراسات الاستراتيجية مطلع عام 2002 وضمت العديد من رموز التصوف من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وفي صيف العام نفسه أصدرت مؤسسة «راند» دراسة حول الفروق والتباينات بين مختلف الجماعات والتنظيمات والتيارات الإسلامية أوصت فيها بضرورة أن تزكي الولايات المتحدة المسار الصوفي «الذي ينطوي على تعاليم تعزز الحوار الداخلي بين المسلمين وتفصل الدين عن السلطة، وتحترم المؤمنين من كل الديانات والمذاهب والعقائد»، واقترحت على أعضاء السلك الدبلوماسي الأميركي في العواصم الإسلامية أن يزوروا أضرحة أولياء الصوفية ومشايخهم ويشهدوا موالدهم، وأن يتم استخدام المعونة الأميركية في ترميم المزارات الصوفية، وحض الحكومات على الاهتمام بالمتصوفة. ولا يمكن النظر إلى المؤتمر الذي انعقد في كاليفورنيا خلال أواخر شهر إبريل المنصرم ونظمته «الرابطة الدولية للتصوف» بعيدا عن هذا المسلك الاستراتيجي الأميركي، لكن لا يجب أن نصم كل من قبل حضوره بأنه ينفذ هذه الاستراتيجية عن وعي وإدراك كاملين. فالبعض يتصرف بسذاجة تارة وحسن نية طورا، معتقدا أن في هذا المؤتمر وأمثاله فرصة لإطلاع الأميركيين خاصة، والغرب عامة، على الطبيعة السمحة للإسلام، مثلما جاء على ألسنة مشايخ الطرق الصوفية العشر في مصر الذين قبلوا حضور المؤتمر، رغم اعتراض المجلس الأعلى للطرق الصوفية عليه، وإثارته الشكوك في أن المؤتمر يرمي في جانب منه إلى تسهيل اختراق الشيعة لأهل السنة عبر المتصوفين، مستندين في هذا إلى أن الرجل الذي دعا إليه واسمه علي كيانفر، رئيس الاتحاد العالمي للتصوف، شيعي المذهب. لكن هؤلاء المشايخ واهمون إن ظنوا أنه ستتاح لهم فرصة تصحيح صورة الإسلام، مثلما أن الأميركيين واهمون إن اعتقدوا أن الصوفية ستتسامح مع تصرفاتهم العدوانية، وستكون هينة لينة حيال مشروعهم الاستعماري. فالمتصوفة إن كانوا قد أظهروا في أغلب الأوقات خنوعا وخضوعا للسلطان والمستعمر ببعض الدول ومنها مصر، فإنهم في بلاد أخرى تصدوا للاستعمار وحاربوه بكل ما أوتوا من قوة، مثل ما فعل عمر المختار شيخ السنوسية في ليبيا، والمهدي شيخ المهدية في السودان، والأمير عبد القادر شيخ الطريقة القادرية في الجزائر. وعلى غرار ما فعل الشيخ ابن ماء العينين شيخ الطريقة الفاضلية ضد الاستعمار الفرنسي في موريتانيا، وما فعله شيوخ التيجانية ضد الفرنسيين في المغرب، وأحمد بمبا في السنغال، والشيخ رابح فضل الله في وسط أفريقيا، والحاج عمر الفوتي التكروري في غرب القارة السمراء، والملا محمد عبدالله حسن في الصومال ضد الاستعمار الإنكليزي والحبشي. وعلى شاكلة ما فعلت النقشبندية في إندونيسيا حين حررت البلاد من الاستعمار الهولندي، وحين حافظت على الإسلام في آسيا الوسطى والقوقاز. وربما ينظر الأميركيون وحلفاؤهم إلى الجزء الضئيل الفارغ من الكوب، حيث تعاونت بعض الطرق الصوفية أو أجنحة منها مع المستعمرين طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، لكنهم ينسون أو يتغافلون عن الطابع الجهادي والنضالي الذي ميز أغلب أفكار وممارسات متصوفة البلدان المحتلة، وهي سمة لا أتصور أن تسقط بالتقادم، ولا أعتقد أن مؤتمرات «غسيل المخ» أو «بث الأفكار المسمومة» بوسعها أن تجرف أمامها ميراث تاريخي راسخ الأقدام لمتصوفة أمة أعرق من أميركا بكثير. * كاتب وباحث مصري