حديقة الإنسان: كتاب المتع المجانية

نشر في 04-07-2008
آخر تحديث 04-07-2008 | 00:00
 أحمد مطر من أجل إثبات أن الحرية هي أفضل شيء في هذا الوجود، عكف الكاتبان البريطانيان دان كيران وتوم هوجكنسون على إعداد كتابهما الطريف والممتع «كتاب المتع المجانية» الذي صدر هذا العام عن دار «ايبري بريس» في لندن.

والحرية المقصودة في هذا الكتاب لا تنحصر ضمن حدود معناها الضيق المتمثل في كسر القيود أو الخروج من وراء القضبان، بل هي تتسع لتشمل كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياة المرء اليومية التي يمكنه من خلالها تحقيق حريته بالتماس المتع الكثيرة المتناثرة والمنتظر منه ان يأخذها من دون مقابل.

يقول هوجكنسون في مقدمة الكتاب، الذي استقصى مئة موضوع تتحقق فيه متعة الإنسان مجاناً: «تعودنا نحن الغربيين على إعطاء أنفسنا كلية للعمل، بدافع الوهم القائل بأن اللهو أمر باهظ الثمن، وعلى ذلك فنحن نعمل بمشقة من أجل الحصول على مال ننفقه في النهاية على اشياء نجد فيها متعتنا، ناسين أن من حولنا كثيراً من المتع المجانية التي من شأنها أن تساعدنا على التخلص من هذا الوهم، والخروج من شرنقة العمل الشاق الى عالم المرح والحرية.

وهو ينظر الى اقتناص المتع المجانية باعتباره نوعاً من الإرادة الذاتية، والتحرر، والاستقلال، مهتدياً في ذلك بفكرة الفيلسوف البلجيكي «راؤول فينيجيم» التي لخصها في «كتاب المباهج» بقوله: «إنني أريد أن أناضل من أجل مرح أكثر... لا من أجل ألم أقل!» ويضرب مثلاً على ذلك بقوله: إننا عندما نأخذ غفوة تحت شجرة في حديقة عامة، من دون شعور بالذنب فمعنى ذلك هو أننا نستخلص حقنا في العيش بالكيفية التي نختارها. وعندما نتجول في شوارع المدينة بأبطأ ما نستطيع، لمجرد مراقبة جريان الحياة من حولنا، من دون الاضطرار إلى دخول أحد المخازن للتسوق، فإننا بهذا نقود مظاهرة للبهجة ضد العمل وضد المجتمع الاستهلاكي.

ويرى أن بإمكان المتع المجانية التي في متناولنا أن تعيد صلتنا مجدداً بالطبيعة، ذلك أن صلتنا بها الآن تكاد تكون مقطوعة، بفعل المخترعات التي رفّهت عنّا من جانب، لكنها، من جانب آخر، حرمتنا المباهج الطبيعية الأصيلة التي لا تكلفنا شيئاً، على الرغم مما تقدمه لنا من علاج نفسي رائع.

ومن أمثلة المتع التي يطرحها الكتاب يشير المؤلفان إلى «المقاعد العمومية» باعتبارها اختراعاً عبقرياً!.

ففي هذا العالم المتسم، على نحو متزايد، بالتوجيه والسيطرة وتحديد الأهداف، تبدو المقاعد العمومية، في الأسواق أو الحدائق أو الشوارع المزدحمة، بمنزلة جنة للحرية وسط جحيم المدينة. فعلى المقعد يمكنك أن تقرأ أو تغفو أو تتناول شطيرتك، وبإمكان العجائز الجلوس ومراقبة العالم، وهو يمر من أمامهم، وبإمكان الأمهات ان يتسلين بالقراءة، بينما يغفو أطفالهن في عرباتهم. وحتى اللقاءات السرية يمكن عقدها فوق تلك المقاعد، حيث يتم تبادل المشاعر بثقة وجرأة، من دون خوف من رقيب.

إن المقاعد العامة تقدم لنا عروضاً للمرح والعزلة والراحة، وكل هذا... مقابل لا شيء!.

وهناك موضع آخر لالتقاط المتعة المجانية، فعلى النقيض من المقاعد العامة، نجد أن الجدران متوافرة في كل مكان، لكنها كالمقاعد، كفيلة بإعطائنا فرصة للراحة.

الجدران دعامة مناسبة تتيح لك أن تبقى متكئاً لفترة طويلة، من دون أن تشعر بكثير من التعب، كيما تراقب العالم، وهو يجري أمامك من النقطة الموقتة التي تختارها. ومن المناسب في هذه الحالة أن يكون في يدك كتاب جيد لا صحيفة، فإضافة إلى ما تغرقك فيه الصحيفة من تفاهات وكلام فارغ، فإن أرقّ نسمة يمكن أن تبعثر صفحاتها وتجعلك غير قادر على القراءة.

ومن بين المتع المطروحة جميعها في الكتاب، ان «الغفوة» هي الأسهل والأكثر جلباً للرضا والراحة.

يقول هوجكنسون: إنها لجريمة منكرة ألا تؤخذ الغفوة في أوروبا أو أميركا إلا بسرية وبنوع من الشعور بالذنب، على الرغم من أنها الشيء الأكثر طبيعية في هذا العالم.

من الجنون أن نعمل أكثر من ثماني ساعات، من دون أن نقطع هذا الوقت بقليل من النوم. إننا يجب أن نحمل الوسادة معنا أينما ذهبنا، وأن نمارس الإغفاء كلما احتجنا إلى ذلك.

سواء في الحديقة العامة أم في مكان العبادة... لأن أخذ غفوة كلّ يوم من شأنه أن يؤدي لأجسادنا ولنفوسنا مفعول مليون كبسولة فيتامين أو مجدِّد للطاقة!.

ويرى المؤلفان أنّ قيادة الدراجة هي الأرخص والأعظم والأكثر متعة من بين وسائل المواصلات جميعها التي اخترعت على الإطلاق. فبقليل من الجهد يمكنك أن تتجول خلال المدينة وأن تتعرف حقاً على خريطتها، من دون أن يزعجك ما يزعج سائق السيارة الذي تعذبه الطرق ذات الاتجاه الواحد وزحمة المرور. كما يمكنك أن تنتقل من جهة إلى أخرى خلال دقيقة واحدة، وأن تسبق سيارة رياضية لا تقل قيمتها عن ربع مليون جنيه، وأن تجد موقفا لدراجتك في أيّ مكان.

إن قيادة الدراجة، في الحقيقة، هي واحدة من أعظم بواعث الشعور بالحريّة، وإنه لمن المدهش أن يداخلك مثل هذا الشعور في المدينة الحديثة، فيوماً ما سيجدون طريقة لفرض الضريبة والقواعد البيروقراطية على مثل هذه المتعة البسيطة، ولحسن الحظ انهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن، فاغتنم الفرصة واركب دراجتك، فليس هناك شيء جيد يمكن أن يستمر إلى الأبد!.

وفي بلدان تهطل فيها الأمطار بغزارة طول العام، يدعو المؤلفان قراءهما إلى التماس البهجة بإلقاء المظلة وإلقاء الحذر من البلل إلى أبعد ما يستطيعون، ففي فصل بعنوان «اختر أن تبتل بالمطر» يقولان: إنك تصنع لنفسك كثيراً من المتاعب التي لا لزوم لها، عندما تحاول بالطرق كلها أن تتجنب الابتلال عند هطول الأمطار، بينما يمكنك أن تنال شعوراً رائعاً بالحرية حينما تلغي محاولاتك جميعها للبقاء جافاً، وتسلم نفسك إلى وابل المطر. لا تركض، امش على مهلك، انظر إلى الأعلى، ابتسم، واستمتع باحساسك بالماء النازل من السماء، وهو ينعش وجهك المهموم، وكلما كان ابتلالك أكثر، فإنك ستشعر بالحرية أكثر.

وعلى الشواطئ أيضا هناك متع مجانية لا تحصي: اختر شاطئاً منعزلاً، حيث لا وجود لحوانيت أو باعة آيس كريم أو مواقف للسيارات، وستجد الجميع من حولك سعداء... أولياء الأمور بامكانهم أن يمارسوا القراءة أو التجديف أو التأمل، وبامكان الأطفال أن يكتشفوا مهاراتهم من خلال المادة الخام الصالحة لصنع الأشكال المختلفة: الرمال الرطبة. لن يكون هناك شجار حول الحصى، لأن الحصى موجود بكثرة كافية على الشاطئ، وبعكس عالم البضائع الاستهلاكية، نجد أن الطبيعة بكرمها، تزود كل شخص بالكثير مما يرغب فيه. ومعنى ذلك أنه لا محلّ للعراك في هذا الشأن، فبإمكانك أن تختار السباحة، أو اللهو في البرك الصخرية، أو التقاط المحار، وبإمكانك أن تتناول الشطائر، أو أن تقوم بشواء بعض السمك. ان عالماً رحباً من البساطة والسهولة وراحة البال موجود هناك من أجل أن يؤخذ.

هذا جانب ضئيل من عدد كبير من المتع المجانية التي احتواها الكتاب كدليل ومرشد، وإذا لم يقتنع المرء ببعضها، فحسبه أن يستمتع إجمالا بطريقة عرضها المتسمة بالإيجاز وروح الفكاهة... وذلك مما يمكن اعتباره متعة مضافة، لكنها للأسف متعة غير مجانية، لأن «الكتاب» عمل يكلف مؤلفه وناشره جهداً ومالاً، الأمر الذي يوجب أن يتقاضياً ثمناً عنه، وإلا لفسدت متعتهما في إرشادنا إلى المتع المجانية!.

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية

back to top