يفرق القرآن الكريم بين الاختلاف الطبيعي بين السماء والأرض والليل والنهار والرياح والحياة والموت والفلك والدواب والأنعام والزرع والثمرات، والماء والشراب وأخيرا الألسنة والألوان، والخلاف المصطنع المذموم نتيحة للشقاق والشك والتعصب والحزبية والجهل وضيق الأفق.
الأول سنّة الله في الكون، والثاني نتيجة لفعل الإنسان وأهوائه وانفعالاته، وهناك آية جامعة لمعظم أنواع الاختلاف الطبيعي «إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأحْيَا بِهِ الْأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». ثم يفصل هذا الاختلاف الطبيعي في آيات أخرى تجمع بين الاختلاف الكوني «إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ»، فالكون بمجراته وكواكبه ونجومه مختلف، والليل والنهار بتوزيع الضوء بينهما وأساليب الحياة مختلفان.والماء يربط بين السماء والأرض ليحيي الأرض بعد موتها، وكذلك الرياح لتدفع الفلك لتجري في البحر «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، فالكون في حركة دائبة، والأرض تنبت الزرع مختلف الألوان «وَمَا ذَرَأ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا ألْوَانُهُ». وذلك كله بفضل الماء الذى يحيل الأرض الهامدة إلى حياة «ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا ألْوَانُهَا»، الأخضر والأصفر «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا ألْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا»، ويتشابك الزرع ويتعانق النخيل فيصبح كالجنة «وَهُوَ الَّذِي أنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أكُلُهُ»، والجبال مختلف ألوانها بين الأبيض والأحمر، ما عليها من ثلج وما فيها من حديد «وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهَا»، والناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها كذلك «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ كَذَلِكَ»، يخرج من بطونها ألبان فيها شفاء للناس «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ»، وأهم من ذلك كله اختلاف البشر في ألوانهم وألسنتهم «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَألْوَانِكُمْ»، هذا هو الاختلاف الطبيعى الممدوح الذي يستحيل معه صب الخلق في قالب واحد، والناس في شكل واحد.أما الاختلاف المصطنع غير الطبيعىيفهو الشقاق والتعصب والتحزب الناتج عن الانفعالات والأهواء البشرية، وهو اختلاف مذموم طارئ، ينشأ من تضارب المصالح، وهو ضد الوحدة ويؤدي إلى التفرق والتشتت والتبعثر والتشرذم والضياع، وهي سمات المواقف البشرية «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا».البشر دائما في شقاق «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ، إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ»، والحقيقة الواضحة لا خلاف فيها مثل يوم الميعاد «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ»، ولايزال الاختلاف بين الناس إلا من رحمهم الله «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ»، والعجيب أن يختلف الناس بعد ما يجيئهم من الحق على تأويله «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ»، وهو نموذج أهل الكتاب الذين اختلفوا على الحق بعد ما جاءهم «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ»، ويصل حد الاختلاف إلى الشقاق بل إلى الحرب «وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ». لقد اختلف النصارى على ما جاءهم من الحق وعلى طبيعة السيد المسيح، واختلف اليهود على كتاب موسى «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ»، اختلفوا على شريعته «إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ»، وتفرقوا شيعا وأحزابا وفرقا وطوائف «فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ»، ويقع الاختلاف بعد ما يأتيهم من العلم «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ»، وبعد ما يأتيهم من البينات «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ». وهو درس لكل أمة أتت بعدهم «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ».الأصل في البشر الاتفاق والوحدة ثم يختلفون على المصالح والأهواء «وَمَا كَانَ النَّاسُ إلا أمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا»، ولا سبيل إلى الاتفاق إلا العودة إلى الكتاب «وَمَا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ»، ولا سبيل إلى معرفة الحق من جديد إلا بالاحتكام إلى الكتاب «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ»، ويقص القرآن على الأمم السابقة، اليهود والنصارى، ما كانوا يختلفون فيه «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». فعلى الفلسطينيين أن يختاروا أي اختلاف يريدون: الاختلاف الطبيعي الممدوح أم الاختلاف المصطنع المرذول؟ الأول اختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، وهو طبيعي بين البشر والتقارب فيه ممكن، فالنظر إلى الشيء ممكن من وجهات متعددة، ومجموعها يكوّن نظرة كلية بين «فتح» و«حماس»، بين السلطة والمقاومة، بين منظمة التحرير والفصائل التي لم تنضم إليها.والثاني خلاف على الحق وكيفية التعامل مع العدو المحتل، الاستسلام أم المقاومة، المساومة على الحق أم التمسك به، وهو تعارض في الرأي لا سبيل إلى المصالحة بينهما. الأول اختلاف محمود يمكن أن ينتهى إلى اتفاق. أما الثاني فهو خلاف ممقوت يؤدي إلى ضياع الحق وسفك الدماء والحرب الأهلية والانقسام الوطني.* كاتب ومفكر مصري
مقالات
الاختلاف الطبيعي والخلاف المصطنع
02-03-2009